ولدت في قرية صغيرة بالصعيد وأنا الأبنة الكبري لوالدي بعد شقيقي الذي يكبرني, وشقيقتي التي لحقت بي بعد ولادتي بأربع سنوات, أما ابي فيعمل بالزراعة مع اعمامي في المزارع التي ورثوها عن جدي, ولذلك قلما يكمل ذكور العائلة تعليمهم إذ يكتفون بمؤهل متوسط لكي يلتحقوا بالعمل في الأرض مترامية الأطراف, فهي مصدر الرزق لنا وتمثل القوة في الصعيد ويعاملها الجميع معاملة الشرف والعرض. هذه هي الثقافة التي تربيت عليها في قريتي وبين عائلتي.. موروثات قديمة ممزوجه ببعض العادات والتقاليد لا أساس لها من العقل, وبرغم أن والدي غير متعلم وكذلك اعمامي الا انهم تنبهوا لأهمية التعليم وكسروا بعض تقاليد الصعيد, فلقد ألحق اعمامي بناتهم بالتعليم قبل والدي الذي شجع هذه الخطوة بعدهم وألحقني بالتعليم في المدرسة القريبة من قريتنا, وانهيت دراستي الابتدائية والاعدادية بنجاح ولم يجد ما يمنع من ان استكمل مشواري الدراسي خصوصا أنني لا احمله عناء ماديا ولا احتاج إلي دروس خصوصية أو مبالغ باهظة كبقية بنات العائلة والتحقت بالتعليم الثانوي, واجتزت المرحلة الثانوية بتفوق وهنا صمم والدي علي ان اكتفي بهذا القدر من التعليم وكذلك اعمامي من منطلق أن كل الأمور في العائلة شوري ومن حق الجميع ان يدلوا بآرائهم في أي أمر يخص احد افراد العائلة, فهذا هو موروث العائلة الذي يكسر كل حواجز الخصوصية داخل البيوت.. ووجدتني اقف أمامهم وأرجوهم أن استكمل تعليمي لكيلا يضيع مجهودي وتفوقي هباء وهدرا لكنهم تمسكوا بمبدأ التزام المنزل انتظارا للزواج من ابن عمي حتي لا تخرج الأرض بعيدا عن العائلة في المستقبل, وامام توسلاتي ودموعي وتصميمي علي موقفي ومحاصرتهم بالنقاش والحوار وافقوا اخيرا علي استمراري في التعليم الجامعي بشروط مجحفة كان اولها ألا تتعدي ايام الدراسة ثلاثة أيام وألا اتاخر عن البيت بعد صلاة العصر, وان يقوم بتوصيلي من المعهد العالي الذي التحقت به واليه ابن عمي الذي لا توجد بيني وبينه أي علاقة باعتبار أنه سيكون زوج المستقبل بفرض الأمر الواقع, بل وطلبوا مني ضرورة موافقته علي ذلك, ووافق ابن عمي بالفعل بعد أن طلبت منه ذلك دون نقاش, فهو ضعيف الشخصية قليل الكلام والتحقت بالمعهد الذي يقع في مدينة قريبة من قريتنا, اما ابن عمي فقد امرته بأن يتركني وشأني في الذهاب إلي الكلية والعودة منها حتي لا يسبب لي حرجا فامتنع بعد مرات قليلة رافقني فيها, ووجدت داخل اسوار المعهد عقولا متفتحة وطموحات بلا حدود فتحت العنان لأفكار وآراء كانت مكبوتة بداخلي في سجن العائلة وتقاليد الصعيد التي تتحكم في البنت وكأنها بلا عقل أو تفكير أو تمييز, فلقد استطعت لأول مرة ان احاور شبابا وبناتا متفتحين وناقشت الجميع في وجهات نظري حول امور الحياة المختلفة, ووجدت حياتي الحقيقية في المعهد بل وعرفت الحب العفيف والاعجاب المتبادل مع زميل اكن له كل الاحترام, أما علي مستوي العائلة فالجميع يتعاملون معي باعتباري خطيبة ابن عمي الذي اكبره بشهور والذي اكتفي بالشهادة الاعدادية, وعندما فتح معي والدي حوارا مباشرا ورسميا حول ضرورة التحويل إلي معهد سنتين حتي اتزوج ابن عمي الذي انتظرني طويلا عبرت له عن عدم قبولي له لوجود فوارق في التفكير والسن, فانقلبت ملامح وجه ابي إلي شخص آخر لا اعرفه, وانقبضت قسمات جبهته وأعلن الغضب علي ووجه إلي السباب والشتائم, واعتبر أنه لم يسمع أي شيء مني ووجه اللوم لي وهو يقول إنه السبب فيما يسمعه مني لأنه سمح لي بأن اكمل تعليمي وأن هذا هو جزاؤه, وأن الزواج سيكون فور انتهاء الامتحانات بغض النظر عن النجاح من عدمه, مغلقا بذلك أي طريق يمكن أن أؤجل به ذلك الزواج النكبة. أما زميلي المحترم متفتح التفكير فهو من عائلة كبيرة وأنا متأكدة من مشاعره نحوي وأنه يبادلني الاعجاب ولكن حياءه واخلاقه تجعله يضمر ما بداخله حتي اعطيه فرصة لكي يبوح بما في قلبه ولكنني مرغمة بأن اجعل ما بداخله حبيس قلبه, كما فعلت أنا تماما, حتي لا اخلف وعدي لأبي بأنني لن اخون ثقته التي منحها لي ابدا. انني حائرة فأنا لا احب ابن عمي ولا اشعر نحوه بأي مشاعر نهائيا ولا اتخيل نفسي زوجة لذلك الشخص, وكل ما اشعر به نحوه مجرد مشاعر اخوية وقرابة دم فقط, لقد قضت العادات والتقاليد علي احلامي وانسانيتي وجعلتني مجبرة علي ان اختار تعاستي برغم معرفتي بها سابقا, ولا انكر انني حاولت التقرب من ابن عمي وان أتأقلم معه ولكن الفشل المؤكد كان حليفي, فثقافته وحياته وطموحاته واحلامه لا تتعدي رقعة الأرض التي يقوم بحرثها, ولا تخرج عن البيوت القليلة المتلاصقة في قريتنا وتنتهي عند مغيب الشمس, وري الأرض بالماء, وأنا انسانة متفتحة ومتعلمة وطموحة لاقصي درجة, لذلك فإنني مؤمنة بأن زواجي من ابن عمي هو نهايتي كإنسانة ولو صمموا علي ذلك فسأعيش معه جسدا بلا روح, فهل توجه كلمة إلي أبي عسي أن يلين قلبه ولايلقي بي إلي الهلاك بيديه بحجة تقاليد بالية لم يعد لها وجود في هذا العصر؟ ولكاتبة هذه الرسالة أقول: هناك كثيرون يتمسكون بتقاليد بالية لم تعد منطقية في هذا العصر, ومنها بالطبع التمسك بتزويج البنت لابن عمها طمعا في ألا ينتقل الميراث فيما بعد الي عائلات اخري.. وقد يرغمون بناتهم علي قبول هذه الزيجات, ضاربين بكل تعاليم الإسلام عرض الحائط, فالدين الإسلامي يحث الآباء علي تخيير بناتهم بقبول أو رفض من يتقدمون للارتباط بهن, واشترط موافقة الفتاة علي من تراه مناسبا لها.. والحقيقة أن كثيرين من هؤلاء الآباء الحجريين, قد لانوا وتجاوبوا مع مقتضيات العصر الذي نعيشه الآن, فأصبح من حق الفتاة أن تتعلم وأن تعمل وتختار فتاها الذي ستكمل معه مشوار الحياة.. ولذلك استغرب موقف أبيك الغامض حتي وإن كنتم تعيشون في قرية صعيدية لها موروثاتها وعاداتها وتقاليدها. وأقول له: إذا كنت قد وافقت لابنتك علي مواصلة تعليمها بعد الثانوية العامة فالواجب يقتضي عليك أن تعطيها فرصتها كاملة في استكمال التعليم الجامعي واختيار العريس المناسب لها.. ولا أظن أن ابن عمها يرضي بأن يرتبط بمن لا تريده.. ولعله أحس ذلك من طريقة معاملتها له فابتعد عنها بعد أن أوصلها إلي المعهد مرات معدودة.. فكن حكيما ياسيدي واترك حرية الاختيار لابنتك مادامت فتاة ملتزمة دينيا وأخلاقيا.. واكسر التقاليد التي لا يقرها الدين, وإسأل الله لك التوفيق ولابنتك النجاح والسعادة مع من اختاره قلبها