وكأن المجتمع اكتشفهم فجأة في الأحداث الأخيرة بعد أن تداول الإعلام بعض الصورلأطفال يلقون الحجارة والمولوتوف في أحداث مجلس الوزراء وبعد ظهور بعض الفيديوهات بها اعترافات لبعض الصغار تم استغلالهم بأشكال مختلفة. وبين صورمشوهة عن حقيقتهم تلقي كالعادة بأصابع الاتهام نحوهم و مبادرات لمساعدتهم وانقاذهم من بؤر الاستغلال والإفساد في مجتمع طالما لفظهم وقسا عليهم, تظل قضيتهم في ذمة مجتمع ما زال يلفظ الكثيرين منهم ولا يقدم حلولا حقيقية لحمايتهم وتأهيلهم أولتجفيف منابعهم. يالا يا ولاد علشان تروحوا تاكلوا وتستحموا وتلبسوا هدوم جديدة, دعوة تبدوغريبة في وسط صينية ميدان التحرير يقابلها أسئلة من بعض الموجودين انتوا واخدينهم علي فين؟ في حين تنتظرسيارة ميكروباص بالجوارليركب فيها الأطفال. النداء يوجهه بعض الشباب للاطفال الذين يستجيب بعضهم ويصعد للسيارة بينما يحاول البعض الآخر التهرب خوفا من الحبس في الجمعية أورغبة في الاستمرار في الميدان علشان أشوف حالي, وهو رزقه إما متسولا أو بائعا للشاي أو الأعلام وتشيرتات الثورة في حين قرر آخرون مثل محمود الذهاب للحصول علي الطعام والملابس ثم يعود مرة أخري إلي الميدان بعد أن عرف من زملائه أن مشرفي الجمعية لن يمنعوه من الخروج إذا أراد. المحررة واخصائي مركز الاستقبال مع الاطفال مشهد استوقفنا حين ذهبنا للميدان لمعرفة الجديد عن أحوال هؤلاء الصغار الذين نسمع كل يوم تصريحات رسمية عن ضرورة حمايتهم وعدم الزج بهم في السياسة بالاضافة إلي كم كبير من الإدانات و الاستنكارات لاستغلالهم و حين سألنا الشباب عما يحدث قال علاء رشاد إنه وصديقه ماهر وبعض شباب الميدان يقومون بتوصيل الصغار إلي مركز استقبال أطفال الشارع في قرية الأمل بمنطقة السيدة زينب. إحدي المبادرات التي يقوم بها الشباب في محاولات تبدو حتي الآن فردية لإنقاذ الصغاروحمايتهم, فبعد أن أقام لهم البعض خيمة وقدم لهم الأطعمة والمشروبات يظل استمرار وجودهم في الشارع خطرا يهدد بالمزيد من الانتهاكات و الاستغلال. وقص علاء علينا اثناء الطريق محاولات بعض الثوار مثل عم و ليد وهاني و ابلة غادة مساعدة هؤلاء الصغار بإقامة خيام و توفير ملابس وأطعمة, في حين علمنا أن هناك مبادرات من البعض الآخر لضم بعض الأطفال إلي اسرهم في حالة مناسبة الظروف. وفي مقرالجمعية الذي يبدو شديد التواضع بإمكاناته يحاول الجميع من الأخصائيين وحتي المدير التعامل مع هذا العدد المفاجيء من الصغار الذي يفوق قدرة المكان وطبيعته كمركز استقبال للصغار يقومون فيه بالإستحمام والحصول علي بعض الأطعمة وممارسة الأنشطة لكنه ليس مقر إقامة كما أوضح إسماعيل عبد العزيز, مدير المركز. ليروي عصام زكي مشهد اليوم السابق حين أتي عدد كبيرمن أطفال الميدان وقاموا بتكسير قاعة الطعام وحدثت الكثير من المشاجرات و لكن حاول الاخصائيون التعامل معهم وتهديد القادة منهم بأن من لم يحترم المكان لن يكون مقبولا فيه ليخرج القليل منهم ويبقي الكثيرون باحثين عن بعض الأمان والملابس والأطعمة. يوسف, محمود, بكار, رمضان وشيكابالا, والكثيرون غيرهم, صغار ألقت بهم ظروفهم المختلفة من عنف واستغلال أسري وانتهاكات بسبب التفكك والفقر وعشوائية الحياة التي يعاني منها ملايين من الأسر في مصر, إلي الشارع و اجتمعوا في الميدان. وأصبح التحرير طوال الشهور الماضية مأوي شديد الجاذبية لأطفال لا تقل قسوة حياتهم عن قسوة أم منحت بضعة قروش للإخصائي الذي أتي ليعيد لها صغيرها ذا الخمس سنوات الذي فر إلي الشارع قائلة له اشتري بها جركن بنزين وولع فيه. الأم كانت حاملا وتحمل طفلا بين ذراعيها ولديها خمسة آخرون بالداخل هان عليها وليدها لتلقيه مثل الآلاف غيره إلي عالم من الغموض والعنف والانتهاكات في الشارع. واندمج الكثير من الصغار بين الثوار وتظللوا بحماية الميدان وشعروا في كثير من الأحيان بأن من واجبهم حمايته و الدفاع عنه. بل كشف تجمع الكثير منهم في الميدان عن حجم الظاهرة ونموها و ضرورة اهتمام المجتمع بها. توجد له مبرراته من وجهة نظرهم لكنه ايضا لا يخلو من الأخطار والعنف تجاههم ومحاولات الإستغلال. وفي تدافعهم للحديث عن تجربة الميدان والحياة التي تبدو مختلفة جدا لصغار لا تتعدي سنوات عمر أكبرهم الأربعة عشر عاما, تختلط الكلمات البسيطة بالتحليلات المهمة ورؤي الصغار بمنطق الكبار الذين أصقلتهم التجارب وفي بعض الأحيان الحقائق ببعض من الخيال. وأثناء جلسة مع الأخصائيين بعد الاستحمام وارتداء الملابس الجديدة التي اشتراها لهم بعض شباب الميدان وبعض المتطوعين تدفقت الكلمات لتعبر عن حالهم في الشارع الذي تحول حتي علي لسان الصغار إلي سياسة. احنا كنا بنموت كل يوم وما حدش حاسس بينا,هو ينفع يضربوا علينا قنابل مسيلة للدموع, احنا كنا بنضربهم علشان بيضربونا بهذه الكلمات بدأ رمضان الذي ترك أهله بسبب العنف والقسوة وإجباره علي ترك المدرسة ليعمل نجارا. و يحكي: في التحرير تعرفت علي مصطفي و كنا بندافع عن الميدان في محمد محمود وبنضرب طوب لما يضربونا وبكثير من التأثر قال لما صاحبي مصطفي مات جبت عشر أزايزمولوتوف واستخبيت وضربتهم بيهم, ليه صاحبي يموت حرام حرام ؟ تساءل رمضان مرددا اغنية ارتجل كلماتها و لحنها مش عايز ابقي في الشارع علشان اللي ح يروح هناك ح يموت, صاحبي مات بالخراطيش, لو محدش معانا ح نبقي في الشوارع, حرام يا دنيا حرام. اما عبد الحميد فقال هناك ناس جت التحرير بعربيات هاماروحاولوا يدونا فلوس علشان نضرب مولوتوف بس احنا ما رضيناش. لكن احمد قال انا جبت قبل كده خرطوم وسحبت البنزين من العربيات وحاطيته في ازايزأيام الثورة بس علشان البلطجيه دخلوا علينا المنطقة و كانوا عايزين يسرقونا, أما عبد الحميد فزعلان من قسوة رجال الشرطة العسكرية معه كما يقول, ضربوني وكسروا نظارتي علشان بيقولوا ان احنا كنا بنضربهم. شهادات مختلفة علي الأحداث من وجهة نظر صغار قست عليه الحياة ووجدوا أنفسهم في خضم أحداث سياسية وصدامات أمنية راح البعض منهم ضحيتها في حين تم استغلال البعض الآخرأو تشويهه. وهو ما يرفضه محمود قائلا انا بطلع استرزق في التحرير واطوق عربيات وكل شويه الناس تيجي تشتمنا وتقولنا انتو اللي خربتو البلد, بتاخدوا كام؟ دي ناس عايزة تشوه صورتنا وصورة الثورة, اللي بياخدوا فلوس دول البلطجية بتوع الشرطة لكن انا هنا في التحرير علشان عايز أعيش حر في بلدي. كلمات تبدو كبيرة علي من هم في مثل أعمارهم لكن التجارب كثيرة وهو ما يؤكده أحمد كمال, مسئول وحدة الخدمات المتنقلة في الجمعية الذي يروي قصة تعرضه ومن معه لهجوم شديد من بعض رواد المترو اثناء اصطحابه لبعض الأطفال من التحريرللمركز: بعد أن صاح أحدهم قائلا هما دول اللي بيولعوا الميدان, انتو اللي بتحرضوا العيال, اضربوهم انهالوا علي و لم ينقذني إلا وعي البعض بعد ان اخرجت لهم بطاقة هويتي و أكدت لهم انني احاول مساعدتهم. و يضيف أحمد أن قضية اطفال الشارع تحتاج إلي كثير من الوعي لدي المجتمع للتعامل معها وفهم ظروفهم كضحايا لا متشردين وبلطجية و مجرمين. في حين يؤكد اسماعيل عبد العزيز, مدير المركز, أنه لا يمكن حل مشكلات هؤلاء الصغار بهذه الطريقة و تذكرهم فقط وقت حدوث أزمة والتحدث عنهم وعن مشكلاتهم وقتها ثم تركهم في عالمهم شديد القسوة مرة أخري حتي نفاجأ بالكارثة. ورغم ان مشكلة أطفال الشارع كما يقول اسماعيل تناولها فيلم ليوسف وهبي إلا ان التعامل معها حتي الآن مازال قاصرا في مصر. عصام زكي وامير إبراهيم, اثنان من الاخصائيين اللذين اضطرا للمبيت مع الأطفال القادمين من الميدان لكنهما يؤكدان ان هؤلاء الصغار يحتاجون إلي دور للضيافة الدائمة. فهنا العدد كبير و لا يوجد مكان يكفيهم كما اننا نضطر للسهر بجانبهم خشية من حالات الانتهاكات أو الاعتداءات الجنسية أو من تناول المخدرات. المسألة ليست سهلة خاصة اننا لا نعرفهم,و لا نستطيع ببساطة توجيه هذا العدد للالتزام بقواعد المركز. فنحن حين نظل هنا لشهور طويلة نتابع حالة من الحالات حتي نقرر الوقت المناسب لنقلها إلي دور الإيواء الدائم إذا تعذر إعادتها للأهل يقول عصام في حين يبدو امير فرحا بسبب إعادة احد أطفال التحريرفي اليوم السابق إلي اسرته بعد ان تم التفاهم مع والده واقناعه بتغيير أسلوب معاملته معه. لكن هناك الكثيرين غيره, كما يقول ماهرسعد احد الشباب المهتمين بالأطفال, إما لا يعرفون مكانا لاهلهم أويريدون العودة لكنهم في محافظات مثل المنوفيه أو الفيوم والموضوع كما يقول ماهر مكلف واحنا بنشتغل بامكاناتنا البسيطة مشكلات كثيرة ومتعددة تواجه محاولات إنقاذ أطفال الميدان و غيرهم من الشارع. فالحاجة إلي دور إيواء جاذبة واخصائيين مدربين هي خطوة مهمة كما يقول أعضاء مركز استقبال جمعية الأمل التي تعد أقدم الجمعيات في المجال. فجذب الأطفال من عالم الشارع الرحب ومن براثن القوادين ورؤساء العصابات ليس بالأمر السهل وهو ما يؤكده عصام الأخصائي الذي هدده عمرو تفاحه, أحد قادة الشارع, بسيف لكي يخرج له أحد الصغار من الجمعية لانه تبعه. ويقول اسماعيل عبد العزيز, يجب ان تطبق الدولة مشروع حماية هؤلاء الصغار وان نقوم بتوفير الخدمات و المشروعات الموجهة لهم ما يحتاجونه فعلا لاجتثاثهم من بيئة الشارع الجاذبة بسبب الحرية و الجنس و الفلوس. ويتساءل لماذا لا نقوم من الأصل بعلاج أسباب فرارهم من الشارع وتحسين ظروف معيشتهم وتقديم خدمات جاذبة في المدارس والورش. وهو ما تتفق معه غادة جبر, أحد مسئولي جمعية صحبة خير باسطبل عنتر مؤكدة ضرورة عمل خطط محددة في المناطق العشوائية والفقيرة لتوفير فرص أفضل للعمل والحياة لهؤلاء الصغار لتجفيف منابعهم.و تدخل أحمد كمال قائلا أن هناك مشروعا لإنشاء شبكة للأطفال بلا مأوي. مشروعات وخطط ولجان أخري كثيرة أعلن عنها المجلس القومي للطفولة والأمومة في إجتماعات ومؤتمرات لكن ما هي الحلول العملية كما تقول سهام إبراهيم, مسئول مؤسسة طفولتي لأطفال الشارع. تصريحات رسمية ومؤتمرات تتحدث عنهم وجهود فردية تحاول انقاذهم وحمايتهم لكن تظل المشكلة قائمة في انتظار حلول في الوقت الذي يمتلئ فيه الشارع بالمزيد من الصغار الفارين من قسوة الفقر و العنف وعشوائية المكان والسلوك. فهل من منقذ؟ وهل يتدخل فضيلة المفتي علي جمعة بعد ان صرح بمسئولية المجتمع عن هؤلاء الصغار لإيجاد حلول لحمايتهم لأن وجودهم في مراكز استقبال مؤقتة ليس حلا خاصة بعد ان بدأ البعض منهم يتسرب من جديد ليعود مرة أخري إلي الشارع لانه الأكثر جذبا.