من أراد أن يدرك تلك الروح المصرية الخالصة لله والوطن ماتزال راسخة في ذاكرة المحروسة التي فطرت علي الحب والسلام, ويلمس أيضا النفوس الطاهرة النقية التي تخلو من شوائب البغض والكراهية, فقط عليه أن ينظر ببصيرته وليس ببصره إلي هذا النموذج الفريد في الوحدة الوطنية المصرية' جورج كيرلس والشيخ الهلباوي'. أخوان تحابا في الله والوطن, وأدركا لأكثر من ربع قرن من الزمان حقيقة ألا أن ثمة تناقض, في أن يكون الحب المسكون العاطفة الروحية الخالصة لوجه الله والوطن بين' مسيحي ومسلم', شيخ معمم يرتدي الجبة والقفطان, وآخر أفندي يرتدي آخر صيحات باريس. والحكاية باختصار أن الموسيقار المصري العالمي' جورج كيرلس' قال قبل أسبوعين: لقد فقدت الإنسانية في مصر والعالم العربي هذا الأسبوع الشيخ محمد الهلباوي' القيثارة الصوفية' التي أشجت كل من استمع اليها, وذلك في أعقاب رحيل المنشد الشيخ الهلباوي إثر حادث أليم للشيخ محمد الهلباوي ودون أن يلتفت أحد لرحيه, وهو الحاصل علي إجازة التجويد من الأزهر الشريف, والتحق بعدها بمعهد الموسيقي العربية لدراسة علوم النغم والأصوات والمقامات,ويعتبر من رموز الابتهال في العالم العربي. واستطرد كيرلس قائلا: هذا الرجل البسيط والفنان القدير ذو الصوت الشجي المفعم بالأحاسيس الروحية, الذي يحمل بين ثناياه جميع القيم الجمالية ومعاني السلام والمحبة لكل أنحاء العالم, فقدته الإنسانية وهو العظيم في محبته ومشاعره ووفائه الشديد لوطنه, لقد كان يحظي بحب واحترام كل من يلتقي به, كما كان يحب كل من يعرف معني الحب, أما الذي لا يعرف المحبة فكان يدركها في شخصه الكريم. أن حب الفن النابع من تراب هذا الوطن هو الذي أسر قلبي' كيرلس والهلباوي' علي ايقاع الموسيقي حتي أصبحا ثنائيا مصريا يختلفان في المظهر الخارجي, ولا يختلفان أبدا في جوهرهما الداخلي الذي انصهر في بوتقة الإبداع الذي تجلي صوتا ونغما ليشق صدر سماء الشرق والغرب ليؤكد طهر وصفاء ونقاء سريرتيهما المصرية الكفيلة بذوبان جبال وتلال وهضاب من الجحود والكراهية التي تعتري صفحة حياتنا الحالية, ناهيك عن حب الذات والأنانية التي تسكن نفوس كثير من المصريين الآن, حتي أبناء الدين الواحد في غفوة من العقل والضمير. إنها إذن سيرة عطرة تمتزج فيها حلاوة طعم ماء النيل بالطمي الباعث علي الخصوبة, التي تسري في فومها وعدسها وبصلها الذي أشار إليه القرآن, ناهيك عن الطيبة والفطرة السليمة التي تسكن شوارع قاهرة المعز وريف مصر اليانع بالخضرة, وحتي رمالها وجبالها ورياح العصاري وهي تداعب سعف النخيل مرددة أنشودة مقدسة من زمن الفراعنة والرومان والفرس وجحافل الفرنجة' انجليز وفرنساوية', والتي لم تستطع يوما أن تغير تلك اللحمة العجيبة أو تثنيها عن دورها الرائد في صنع الحضارة علي ضفاف النهر الخالد, والذي غني له محمد عبد الوهاب روائعه المستمدة من ذات الأنشودة المقدسة, سر تلك الأرض ورأس الحكمة التي تتوارثها الأجيال وتسري في الدماء رغما عنا, كنا مسلمين أو مسيحيين أو حتي يهودا. وفي سيرة هذا الثنائي المصري الفريد' كيرلس الهلباوي' تسكن بواطن النفس الإنسانية المصرية المطمئنة التي لاتعرفها الطائفية بقدر ماتعرف روح التعاون والمحبة والسلام, فيقول كيرلس مجترا ماضيه مع الهلباوي: كان الشيخ الهلباوي يحب ابنتي الفنانة' مونيكا' حبا شديدا منذ كانت طفلة في العاشرة من عمرها, حتي إنها عندما كبرت, أصرت علي دعوته يوم زفافها قبيل رحيله باسابيع قليلة, ففاجأ الجميع بدخوله كنيسة العذراء بمدينة نصر لكي يشارك الحضور في هذا الحفل الكبير, ووقف في الصفوف الأمامية بالكنيسة كأنه من أفراد أسرتها المقربين, فقد كان حقا قريبا منا. وعن ذكرياته مع الهلباوي يقول: أذكر أننا سافرنا معا' فرقته الصوفية وفرقة دافيد القبطية' إلي باريس عام1995 للمشاركة في مهرجان الفنون المقدسة, لكي تكون الفنون المقدسة الإسلامية متجاورة إلي جانب الفنون المقدسة الصوفية, وكان ذلك بترتيب من الأستاذ الدكتور أحمد المغربي عاشق الموسيقي القبطية. كما سافرنا معا أيضأ لتقديم العمل الموسيقي الكبير' موزار المصري' علي أوبرا مارسيليا عام1998 في كاتدرائية سانت دوني بباريس من نفس العام, لكي نثبت للعالم أجمع- والذي كان يشاهد الاحتفال علي شاشات عملاقة في ميادين فرنسا- أن صوت الشيخ الإسلامي الرجل الكبير محمد الهلباوي وهو ينشد اللحن الجنائزي الصوفي متوافق ومتناغم تماما مع صوت الطفلة الصغيرة المسيحية' مونيكا', وهي تنشد لحن' الغولغوثا' الذي ينشد في الكنيسة القبطية يوم الجمعة العظيمة, وهو اللحن ذو الجذور الفرعونية, ولكي نثبت أيضا أن كليهما متناغم مع القداس الجنائزي لموتسارت, الذي أحب مصر وأحب موسيقاها. ياإلهي ما أجمل بعضا من بني وطني الذين يملكون قدرة علي تحدي الظروف والأيام والنوائب ليضربوا لنا أروع أمثلة الحب والوفاء انطلاقا من شعور دفين يعكس سمو النفس الإنسانية في تجلياتها الروحية التي استندت إليها حضارة هذا البلد, منذ فجر التاريخ وحتي الآن, وهو مايؤكده كيرلس في قوله: لقد كان الشيخ الهلباوي ينشد وهو ممسكا بيدي من ناحية وبيد المعلم إبراهيم عياد مرتل الكنيسة القبطية المشهور من الناحية الأخري, وكنا نرنم جميعنا للإله الحي, ترنيمة السلام والمحبة ليسمعها العالم أجمع, ولقد كنا نقدم اللحن الصوفي واللحن القبطي, وكأنهما قد امتزجا معا, فلا تعرف أين هي هذه النغمة الصوفية وأين تلك النغمة القبطية, فقد ذابت كل منها في الأخري مثلما ذابت المحبة في القلوب. كنا نشعر بحب الشيخ الهلباوي لجميع أعضاء فرقة دافيد, وكان هو يشعر بمحبتنا الشديدة له ولجميع أعضاء فرقته, وكنا جميعنا علي يقين أن ما نقدمه أمام الجماهير الكثيرة في كل بلدان العالم, ليس مسرحية هزلية, ولكنه سلام معاش ومحبة معاشة بين قلوب تعرف السلام والحب لبعضها البعض قبل أن تعلنه منغما علي خشبة المسرح. كان متواضعا بسيطا, فذات مرة طلب من ابنتي مونيكا قبل أن ينشد هو ألحانه أن تدعو له بالتوفيق, ووعدها بأنه هو أيضا سيدعو لها بالتوفيق, ولما كانت مونيكا وقتئذ صغيرة هرولت فرحة لوالدتها لكي تخبرها بأن مولانا الشيخ الهلباوي سيدعو لها عندما تعتلي خشبة مسرح أوبرا مارسيليا, فكانت بساطته كبساطة هذه الطفلة التي لم تتعد وقتها العاشرة من عمرها, فصار كل منهما يدعو للآخر لكي ما يكون نشيده السمائي مقبولا علي الأرض. وكيرلس يختتم حديثه الشجي مع شيخه الهلباوي في مشهد رائع قائلا: لا أستطيع أن أنكر أنني بكيت كثيرا علي فراق الشيخ الهلباوي, هذه القيثارة الصوفية التي طالما أنشدت أشجت, وطالما رفعت صوتها المفعم بالمشاعر والأحاسيس, أثرت في كل من يسمعها, وأذابت من قلوب سامعيها كل حقد وكل ضغينة وكل فتنة. أرجو أن كل نغمة سبح بها صديقي الشيخ محمد الهلباوي وكل مقام أنشده, وكل ترنيمة رفع صوته بها, أن تكون عربونا لراحة نفسه وسكينة جسده في مثواه الأخير. ألم أقل منذ البداية إن هذا الثنائي الرائع يعكس جوهر النفس الإنساية المصرية التي لاتعرف الفتنة والضغينة بقدر ما تلحق معا في سماء المحبة والسلام, وسلاما يابلادي إن رمي الدهر سهاما. رحم الله الشيخ الهلباوي وأطال في عمر كيرلس تلك القامة المصرية الموسيقية التي ماتزال تتدفق إبداعاتها من تراب هذا الوطن المحروس بابنائه الودعاء الطيبين الذين سيرثون تلك الأرض في نهاية المدي.