ينادي البعض بانتخابات رئاسية مبكرة بعد ستة اشهر, بالرغم من أن هناك انتخابات برلمانية مزمع إجراؤها قبل ذلك سؤال العقل هنا يفرض نفسه: ايهما أنفع للوطن وأكثر درءا للفتن وأنسب لتحقيق تغيير آمن: انتخابات رئاسية قبل موعدها بثلاث سنوات أم انتخابات برلمانية وشيكة ننتظرها منذ أكثر من عامين. الاجابة المنطقية تكون من خلال المقارنة الموضوعية بين السيناريوهين: اولا: من حيث الطريق لتحقيق كل سيناريو, نجدأن فرض مسار جديد للبدء من نقطة الصفر بإجراء انتخابات رئاسية مبكرة يعني إبقاء التوتر في الشارع فترة اطول, ويعلي من احتمال الدخول في دائرة العنف المفرغة, لماذا؟ لأن تغيير مسار متبع بالفعل ويحظي بالمشروعية الدستورية وينطلق من قواعد الديمقراطية وله قاعدة شعبية عريضة( مهما اختلفنا في نسبتها), يحتاج لتوافق شعبي وسياسي جديد, وهو الامر الغائب. فهناك من يعترض علي هذا السيناريو ويعتبره عودة إلي الوراء تضر أكثر مما تنفع. ولذا سنظل نشهد مدا وجزرا في الشارع بين الجانبين, حتي لو ظل سلميا( وهو ما اتمناه ولكن للأسف لا اتوقعه), فندخل بذلك مرحلة ممتدة من عدم الاستقرار. بينما ان انتخاب مجلس النواب هو استحقاق دستوري ديمقراطي متفق عليه من غالبية الشعب المصري منذ اشهر قليلة, وفق استفتاء حر نزيه حظي فيه دستور2012 بأغلبية وصلت الي نحو ثلثي الاصوات. إن معيار الصندوق أكثر تحقيقا للاستقرار مقارنة بمعيار الحشد(رغم أن كليهما من آليات الديمقراطية), لأن المنافسة في تعبئة الحشود يمكن أن تظل مفتوحة الي مالانهاية, وتزيد فيها فرص الاحتكاك والصدام, بينما أن المنافسة في تعبئة الناخبين لها نهاية مؤقتة تنهي جوله لتبدأ عجلة البناء في الدوران, ولتعطي فرصة للجميع ان يقوم بأدواره المهمة كسلطة و كمعارضة علي حد سواء حتي موعد الجولات الانتخابية الاخري. ثانيا: من حيث مدي وضوح ملامح السيناريو ودرجة الاتفاق حول آليات التنفيذ, نجد أن أصحاب سيناريو الانتخابات الرئاسية المبكرة يطرحون آليات تعيد الضبابية للمشهد وتدفع البلاد الي المجهول, فبها نبدأ مرحلة انتقالية جديدة تماما, ليعود مرة اخري المصريون الي يوم12 فبراير2011 للتساؤل عن ماذا بعد؟ وكأننا شطبنا عامين ونصف من عمر هذه الامة المناضلة. ليرجع الجدل العقيم حول المفاضلة بين مجلس رئاسي مدني ام رئيس المحكمة الدستورية العليا, ام حكومة ائتلافية, أم رئيس المجلس التشريعي, واذا حدثت المعجزة بعد فترة طالت ام قصرت ووقع الاختيار علي أطروحة بعينها( ولا اعلم كيفية ذلك), سيكون السؤال التالي ما هي آلية الاختيار التي يمكن ان تحظي بموافقة الاغلبية؟ والاهم ما هي معايير الاختيار؟( والمخاض العسير للجمعيتين التأسيسيتين الاولي والثانية ليس ببعيد عن الاذهان) والاخطر من هم الاشخاص الذين تنطيق عليهم هذه المعايير؟ أما السؤال المستحيل فهو من سيكون قائد ادارة المرحلة الانتقالية الجديدة المقبول من غالبية المجتمع, انتظارا للانتخابات المقبلة؟ثم ما هو مصير الدستور الحالي وما هي قاعدة التشريع التي سنرتكن عليها, هل نعود مرة اخري لسجال الاعلانات الدستورية؟ جميعها أسئلة غير مطروحة من الاساس في السيناريو الثاني سيناريو الاستعداد للانتخابات البرلمانية المقبلة, انه سيناريو يبني علي ما تحقق طوال الفترة الماضية بعد صعوبات جمة عاني منها الجميع, وكان ثمنه غاليا من الدماء ومن عدم الاستقرار. ومن هنا فإن الرؤية المستقبلية للمسار السياسي فيه واضحة بدقة من حيث إصدار قانون الانتخابات بعد مراجعته من المحكمة الدستورية العليا,( وبالفعل أرسل مجلس الشوري قانون مباشرة الحقوق السياسية للمحكمة الاسبوع الماضي وعلي وشك ارسال قانون انتخاب مجلس النواب), وما هي الا ايام بعدها وترسل المحكمة ردها النهائي كما هو متوقع-, لتقوم اللجنة العليا للانتخابات خلال ستين يوما بالدعوة لانتخابات مجلس النواب, تليها انتخابات الشوري وبعدها انتخابات المحليات, لتتنفس مصر الصعداء خلال العام المقبل باكتمال مؤسساتها التشريعية. ثالثا: من حيث نتائج وتبعات كل سيناريو, نجد أن السيناريو الاول سيكون له ثلاث سلبيات رئيسية:1 سيؤثر سلبيا علي مدي رسوخ قواعد اللعبة الديمقراطية وعلي قدرة اي انتخابات علي حسم المنافسة السياسية وجلب الاستقرار للبلاد. فإذا ما افترضنا جدلا الوصول الي إجراء انتخابات رئاسية مبكرة, بعد فترة ممتدة من تأزيم الوطن, السؤال المنطقي هل تستطيع هذه الانتخابات ان تلعب دورها المفترض في إرساء الاستقرار المنشود؟ يجزم أي عاقل بأن الاجابة ستكون بلا, لأننا سنكون بالفعل رسخنا لقيمة سلبية مدمرة لأي استقرار مستقبلي الا وهي عدم احترام نتائج الانتخابات وعدم تمكين الفائز فيها ليقوم بدوره تحت رقابة المجتمع-. حيث من المتوقع ان تبدأ حلقة جديدة من مسلسل السعي لإسقاط الرئيس الجديد من قبل غير الراضين عن انتخابه من الفصيل الآخر المناويء2. وكما أن عدم الانصياع لقواعد اللعبة الديموقراطية الاساسية كان سببا رئيسيا في ظهور خطابات متطرفة في عدائها ومقصية لمنافسيها داخل التيارات العلمانية( الليبرالية- اليسارية), فإنه بالمثل من المتوقع تصاعد نغمة التشدد في داخل التيارات الاسلامية بعدما تفقد إيمانها بجدوي الالتزام بضوابط العمل الديمقراطي, وفي ظل قبول مبدأ الانقلاب علي الشرعية وقلب النظم السياسية عقب كل انتخابات وأي استفتاء. نريد أن تتبادل القوي السياسية مواقعها بين السلطة والمعارضة بشكل طبيعي مقبول من الجميع وفق آليات ديمقراطية لها مصداقيتها.3 القضاء علي اهم ميزة من مزايا النظام السياسي المختلط الذي أسسه دستور2012, وهي كون رئيس الجمهورية مرتكز الاستقرار المؤسسي للنظام. ففي هذا النمط من نظم الحكم يكون للرئيس أدوار مهمة منها: كونه حكما بين السلطات حال تنازعها وضابطا للتناغم ما بين المؤسسات, ولذا فإن الانتخابات الرئاسية تكون محددة التوقيت بناء علي مدة الفترة الرئاسية المنصوص عليها دستوريا. والحكمة الرئيسية الكامنة وراء ذلك هو ما يفترض ان تمثله مؤسسة الرئاسة من ضمانةلاستمرارية النظام واستقراره وعدم اهتزازه تحت اي ظرف سياسي او أزمة مؤقتة. ولذلك اعتادت دساتير النظم المختلطة والرئاسية ان تحصن موقع الرئيس من اي محاولات لعزله الا في ظل مساءلته عن جرائم محددة مثل الخيانة العظمي او الكذب او الفساد المالي. ومع ذلك فقد أضاف الدستور المصري حالة أخري توجب استقالة الرئيس وهي بعد رفض الشعب حل مجلس النواب في استفتاء مطروح من الرئيس, وهو مما يزيد مسئولية الرئيس في الحالة المصرية لتمتد الي المساءلة السياسية ايضا. وبالطبع, سيهتز هذا التوازن الدقيق- الذي صاغه الدستور- ما بين استقرار منصب الرئيس لخصوصية دوره في المنظومة المؤسسية وبين مسئوليته امام الشعب ونوابه لخصوصية اللحظة الثورية, اذا ما تم فرض طريق آخر غير دستوري مختلف حوله للإتيان برئيس جديد. اما السيناريو الثاني فإلي جانب تلافيه السلبيات الثلاث المذكورة فإنه يحقق ميزة مهمة وهي الاسراع بأن تلعب القوي السياسية دورها كشريك في صنع السياسات العامة بشكل اوسع, فالخريطة السياسية الناجمة عن انتخابات مجلس النواب ستكون الاساس الذي تنبني عليه الحكومة الجديدة, التي من المتوقع ان تكون ائتلافية, لأنه ليس واردا ان يحظي اي حزب بمفرده بالاغلبية التي تمكنه من تشكيل الحكومة منفردا. ومن ثم نصبح امام مشهد تشارك فيه مختلف الاحزاب السياسية والتيارات الفكرية في السلطة التشريعية( مجلس النواب) والتنفيذية( الحكومة), علما بأن الدستور الجديد يعطي سلطات واسعة لكليهما في علاقته برئيس الجمهورية او في دوره في صنع القرار السياسي وتنفيذه ومراقبته. ويحقق هذا السيناريو ما يمكن ان نسميه بالتغيير الآمن. الفارق شاسع بين معارضة تبني وتضمن بأدائها القوي استمرار حالة الاستنفار المجتمعي لتحسين الاداء العام وبين العمل علي إسقاط النظام الديموقراطي ذاته مستغلين ما يوفره من حريات, فالاول حراك بناء يقفز بنا للامام بينما الثاني حراك هدام يجري بنا سنين للوراء. قد يعتبر البعض هذا الكلام منطقيا ولكنه نظري- مثالي في ظل حالة الشطط في المواقف والغلو في المطالب والهياج في المشاعر التي نحياها في هذه اللحظة, الا انه مازالت هناك فرصة لوقوف كل واحد منا مع ذاته في لحظة تأمل حقيقية بعيدا عن حالة دق طبول الحرب الجنونية. في الايام المقبلة ينفتح امامنا طريقان, الطريق الاول طريق إحتجاجي متعرج طويل يمر عبر30 يونيو مليء بالمطبات والمنحنيات, تملأ سماءه الغيوم, متأرجحة سرعة السير فيه, والاخطر أنه غير واضح الي أين يؤدي في نهاية المطاف. اما الطريق الثاني فطريق مؤسسي مستقيم مختصر يمر عبر المؤسسات التشريعية( مجلس الشوري) والقضائية( المحكمة الدستورية العليا واللجنة العليا للانتخابات), ممهد, تتضح الرؤية فيه والاهم أنه واضح تماما الي أين يؤدي علي مرمي البصر. مصر الي أين؟ سؤال لن يجيب عنه الا المصريون ارجو ان تكون الاجابة عقلانية. لمزيد من مقالات د. باكينام الشرقاوى