ربما كنا في طليعة قلة من دول العالم التي تعاني الركود المزمن في التعليم. منذ عقود نتحدث عن تطوير التعليم ولانفعله وعن تحديثه ونعطله حتي أصبحت التركة ثقيلة ومؤلمة. رافقت علي نفقة الجامعة التي أعمل بها أعضاء وفد مصري دعي من الهيئة الألمانية للتبادل العلمي لزيارة مؤسسات التعليم الجامعي في ألمانيا علنا نجد لديهم ما يساعد في تحديث التعليم الجامعي الخاص. ضم الوفد الدكتور جمال نوارة أمين مجلس الجامعات الخاصة والاهلية. كان معنيا باستقصاء علاقة الدولة بتلك الجامعات والدكتور احمد فرحات رئيس قطاع التعليم بالوزارة وكان باحثا مدققا عن كل مايعينه في مساعيه لإصلاح أحوال المعاهد العليا الخاصة خاصة ان جدية الرجل في الإصلاح سوف تضعه في مواجهة مع أصحاب المعاهد الخاصة. أما المستشار محمد المدبوح المستشار القانوني للسيد وزير التعليم العالي فقد كان معنيا بجمع التشريعات الألمانية المنظمة لشئون المعاهد والجامعات الخاصة. وأبرز ما في التجربة الألمانية هي الجامعات التطبيقية التي توفر لسوق العمل خريجين مؤهلين بالخبرة العملية الحقيقية وليس المعرفة النظرية فحسب. من بين394 مؤسسة تعليمية عليا هناك227 جامعة تطبيقية يدرس بها33% من إجمالي عدد الطلاب الجامعيين في ألمانيا. ومع ذلك فإن سوق العمل يعتمد علي خريجي الجامعات التطبيقية في60% من احتياجاته في تخصصات الهندسة المختلفة و50% من احتياجاته في مجالات إدارة الاعمال والتسويق والمحاسبة. أبرز جوانب التقصير لدينا هي أننا فشلنا في أن نستفيد مما يتيحه الألمان لنا من فرص دراسية. إحدي وثمانون منحة للدراسات العليا. وفي أحسن الظروف لانستفيد بأكثر من46 منحة. تونس عرفت كيف تستفيد فقد عقدت اتفاقية مع الجانب الألماني لإيفاد خريجي كليات الهندسة للعمل في المصانع الألمانية لمدة خمس سنوات ثم يعودون إلي بلادهم. استفادت ألمانيا من هؤلاء بالعمل لديها واستفادت تونس من الخبرة العائدة مع هؤلاء من المصانع الألمانية. ألمانيا ليست مصانع وورشا. ألمانيا حضارة وفكر وفلسفة وتاريخ ومع ذلك فإن نصيبنا من المنح الدراسية في هذه المجالات يكاد يكون معدوما بالرغم من حاجتنا لهذه التخصصات لتنير العقل المصري في زمن الانغلاق المتزايد. في ألمانيا تدفع الصناعات المختلفة جزءا من تكلفة التعليم الجامعي لأنها تستفيد من القوة العاملة المؤهلة والمدربة في هذه المرحلة من التعليم. في العام الماضي دفعت المؤسسات والشركات غير الحكومية نحو4.9 مليار يورو من إجمالي تكلفة التعليم الجامعي الحكومي الذي بلغ23.3 مليار يورو أي نحو20%. بل إن الجامعات التطبيقية تعتمد في أكثر من30% من ميزانيتها علي تمويل المؤسسات الصناعية والتجارية التي تحتاج خريجين وفق مواصفات خاصة توفرها هذه النوعية من الجامعات. وفي مجال البحث العلمي أنفقت الجامعات الألمانية علي البحث والتطوير نحو11 مليار يورو دفعت الشركات والمصانع منها1.4 مليار يورو. في تمويل الجامعات الالمانية كانت الحكومة قد فرضت رسوما دراسية في الجامعات الحكومية قدرها500 يورو في الفصل الدراسي, إلا أن هذه الرسوم ألغيت في الصراع السياسي بين الأحزاب ولكن الحكومة حتي في أزماتها المالية الأخيرة أقدمت علي زيادة مخصصات التعليم بنسبة11% حفاظا علي أهمية التعليم واعترافا بفضله علي الحياة الألمانية كلها. محور العلاقة بين الحكومة والجامعات الخاصة في ألمانيا هو الاعتماد وضمان الجودة وهو مصطلح كان قد أطل علينا منذ سنوات مثل موجات الموضة بإنشاء كيانات تعاقبت حتي استقرت عند الهيئة القومية للاعتماد والجودة التي غاب صوتها مؤخرا فلم يعد يسمع لها صوت. أما في ألمانيا فهناك مجلس للاعتماد أنشئ في تسعينات القرن الماضي ليحل محل الحكومة في اعتماد الجامعات الخاصة وبرامجها التعليمية. ومنذ عام2001 يتولي هذا المجلس الموافقة علي إنشاء جامعات خاصة والهدف هو التأكد من أن أي جامعة خاصة قادرة علي تقديم خدماتها التعليمية والبحثية بما يتلاءم مع المواصفات العلمية والأكاديمية المعترف بها في ألمانيا. وتعطي الجامعة المعتمدة مهلة ثلاث سنوات لتقديم برامجها الدراسية ثم تخضع هذه البرامج للاعتماد الأكاديمي من جانب واحدة من إحدي عشرة وكالة غير حكومية وغير هادفة للربح. وفي حالة رفض الاعتماد يمتنع علي هذه الجامعات قبول طلاب جدد. هذه الوكالات تعمل بموجب ترخيص من مجلس الاعتماد الفيدرالي الذي يتولي الرقابة عليها بإعادة فحص عينات عشوائية من البرامج الدراسية التي اعتمدتها. كانت الحكومة الألمانية حتي وقت قريب تدعم ماليا هذه الوكالات. وفي إشراف وزارة التعليم العالي علي الجامعات الخاصة ينحصر دور الوزارة في التأكد من الموقف الاقتصادي والقانوني وضمان عدم تدخل الملاك في طرق التدريس أو المناهج الدراسية والتحقق من عدد أعضاء هيئة التدريس وتخصصاتهم وعلاقة ذلك بأعداد الطلاب والتأكد من الاعتماد المؤسسي للجامعة والأكاديمي للبرامج الدراسية. ولاوجود للبدع المصرية التي ورثها الدكتور مصطفي مسعد من وجود مستشار للوزير في كل جامعة حتي زاد عددهم علي عشرين مستشارا والبقية تأتي. لادخل للوزارة بتحديد أعداد المقبولين في كل كلية أو درجات الثانوية العامة للمتقدمين لهذه الجامعات وليس هناك مجلس أعلي للجامعات الخاصة يقرر قبول أو رفض تحويل طالب من كلية إلي أخري في أي جامعة ولجان كثيرة اضاعت الجهد وعطلت العمل الجامعي الحقيقي. التجربة الألمانية غنية ولكن المشكلة تظل أننا لانريد أن ندفع كلفة التطوير. نريد التحديث إن جاء بالمزايا فقط دون الأعباء. لمزيد من مقالات د. حمدي حسن أبوالعينين