جاء رجل إلي( سول الله, صلي الله عليه وسلم, فقال: يا رسول الله, إن لي جارا يؤذيني. فقال, صلي الله عليه وسلم: انطلق فأخرج متاعك إلي الطريق.فانطلق فأخرج متاعه, فاجتمع الناس عليه فقالوا: ما شأنك؟قال: لي جار يؤذيني فذكرت للنبي- صلي الله عليه وسلم- فقال: انطلق فأخرج متاعك إلي الطريق.فجعلوا يقولون: اللهم العنه, اللهم أخزه. فبلغه, فأتاه, فقال: ارجع إلي منزلك, فوالله لا أؤذيك. وهذا حديث حسن صحيح كما قال الشيخ الألباني. ويدل الحديث علي أن هناك ما يتأذي به الرجل من سلوك جاره, وما ينكره عليه, ولما رفع شكايته إلي النبي, صلي الله عليه وسلم, رده النبي مرتين أو ثلاثا, آمرا له بأن يصبر علي جاره, لعله يجد معه طريقا إلي الحل, أو سبيلا إلي التراجع عن ظلمه, أو مراعاة لحق الجوار, فلما لم يجد للصبر منزعا بعد كل ذلك أتي النبي صلي الله عليه وسلم مكررا شكايته, فلم يقترح عليه النبي صلي الله عليه وسلم أن يتدخل ليعاتب جاره في شأنه, وقد كان قادرا, وفعلها مع آخرين, إلا إنه ربما رأي أن الأجدي في هذه الحالة, والأنسب مع الخصم المعتدي أن يوصيه صلي الله عليه وسلم بأن يخرج من بيته, ليس ليواجه خصيمه, أو ليعاتبه جهرا, علي مرأي ومسمع الناس, ولكن يخرج مسالما ليبدي اعتراضه واحتجاجه علي أذية جاره, وأن يخرج معه متاع بيته, إمعانا في إظهار عظم ما بلغ به من الضرر, وفضح ما أوصله إليه جاره من الضيق, والتشهير به, وأن يلقي هذا المتاع في طريق ذهاب الناس وإيابهم, حيث يضمن أن يراه كل الناس, أو أكثر عدد منهم, ولم يذكر أنه أغلق طريق الناس, أو ضيق عليهم فيه, أو ألحق الأذي بالمارة, إذ لم يكن خروجه أو إلقاء متاعه بالطريق بهذا الهدف, وإلا لكان الأولي به رد الأذي علي جاره, ولو فعل ذلك لربما عذر في ذلك, فهو آنذاك سينطلق من جواز شرعي برد الاعتداء بمثله, أما إلحاقه الضرر والأذي بالمارة فهو اعتداء جديد, يؤثمه الشرع, ولا يمكن للشارع أن يجيزه فضلا عن أن يوصي به. لقد تعاطفت معه القوي المجتمعية, وأيدوا موقفه الرافض للظلم أو قبول الاعتداء, ووقفوا إلي جانبه وحوله مجتمعين في تظاهرة رفض وشجب للظلم, بل سب ولعن للظالم علي جهة الدعاء عليه; وهو الأمر المنهي عنه بين المسلمين إلا في مثل هذه المواقف, وكان منطلقهم جميعا قول الحق سبحانه: لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم(سورة النساء, من الآية148) وقوله: ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل; إنما السبيل علي الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق( سورة الشوري, من الآيات42,41). واستمر الاعتصام قائما حتي سمع بما فيه الظالم المعتدي, فآلمه افتضاح أمره, وتكتل المجتمع ضده, وما دار فيه من هتك عصمة ستره, فرضخ لصوت المجتمع, وتراجع عن استكباره وطغيانه. لقد نجح الاعتصام السلمي, وآتي ثماره, دون أن يقف المعتدي عليه في مواجهة مباشرة مع المعتدي, لم يسل فيه سلاح, ولم تزهق فيه الأرواح, أو تحرق فيه المنشآت, ولم يعتد فيه علي المارة, أو يروع فيه الآمنون, ولم تقطع فيه الطرق, أو تعطل باسمه المصالح, أو يهدد به المجتمع أمنيا ولا اقتصاديا. ومن هنا فاني أوجه نداء إلي كل المواطنين المصريين العقلاء والشرفاء أن يسعوا جاهدين, وأن يقفوا صفا واحدا ضد من تسول له نفسه التعدي في المطالبة بالحق, أو تحصيله, أو استيفائه, وعلي الجميع أن يلتزموا بالأحكام الشرعية والقواعد العامة التي تنظم طرق أخذ الحق أو المطالبة به, حتي لا تنقلب الأمور إلي فوضي عارمة يصبح الخصم فيها حكما, وتتحول مجتمعاتنا إلي غابة تضيع فيها الحقوق والمبادئ والقيم. وعلي الجميع أن يدرك الرسالة التي أراد النبي, صلي الله عليه وسلم, إيصالها من خلال تلك الحادثة, والتي تتضمن إضافة إلي ما سبق: وجوب الإحسان في التعامل مع الجيران, والحث علي تحمل أذي الجار مرات, ومشروعية جهر المظلوم بسوء القول في ظالمه, ومنه لعن المعين المؤذي لجاره, وكذا مشروعية مقاومة الظلم والظالمين, ومشروعية التظاهر والاعتصام ضد الظلم والطغيان والأذية, وجواز مؤازرة أفراد المجتمع للمظلوم, ومشاركته في شأنه, والتظاهر معه.كما يستفاد أيضا من الحادثة والحديث, أن من فقه الاعتصام: الصبر علي الضرر قدر الاحتمال, ثم رفع الأمر إلي الحاكم, وسلوك السبل القانونية, واللجوء للخروج إلي الشارع في سلمية, بما لا يخل بحقوق الطريق أو حقوق الآخرين, مع محاولة إقناع القوي المجتمعية بمؤازرته بعد إثبات عدالة قضيته, ثم عدم المبالغة في المطالب, أو التمادي في الخروج مع رضوخ المعتدي. لمزيد من مقالات د. أسماعيل سعد