لا أعرف كيف قام القدر بترتيب أحداث حياتي مع يوم الخامس من يونيو عام1967, لكني أعرف أن موقع منزلي كان في الشارع الموازي لمقر إقامة الرئيس جمال عبدالناصر بمنشية البكري, وأعرف أن لوما قد وصلني من أستاذي الشاعر صلاح عبد الصبور لأني قمت بعرض ساخر لمذكرات بن جوريون مؤسس دولة إسرائيل الذي كان قد اعتزل الحياة ومضي لتربية الأغنام, كلمات الشاعر الكبير قبل أن تكره خصمك عليك بدراسة إيجابياته وسلبياته حتي توجه مستقبلك علي اساس من الاستعداد الجاد لمواجهة هذا الخصم. وأعرف أني كنت ناقما علي اعتقال بعض من أصدقائي و أساتذتي الذين أدين لهم بالكثير من الفهم لحقائق العدالة الاجتماعية, فلم يكن من المقبول اعتقال رجل التخطيط الجليل د. إبراهيم سعد الدين الذي وضع مع فريق متميز تحت قيادة زكريا محيي الدين نائب رئيس الجمهورية آنذاك ملامح خطة تنمية أنجزت لنا تقدما بنسبة تفوق الستة بالمائة في أول مشوار مصر للتنمية, ومعه إسماعيل عبدالحكم الذي أدار أول معهد للدراسات الاشتراكية بمصر المحروسة, وفوق ذلك قائمة تضم الشاعر عبدالرحمن الأبنودي وسيد حجاب وصلاح عيسي الذي كان من أوائل الكاشفين لمحنة ثورة الثالث والعشرين من يوليو بدراسات رصينة عن مأساة تطبيق العدل الاجتماعي, بواسطة من هم غير مؤمنين به, بل مجرد مصفقين في كل احتفال. صحيح أن الاعتقال كان لعدة ساعات بالنسبة لبعضهم, واستمر شهورا بالنسبة للبعض الآخر, ولكن الصحيح أيضا أن مجرد الاعتقال كان إهانة لعقول قادرة علي صناعة الأمل. عبرت عن قلقي لاثنين من أعز الأصدقاء اللذين يكبرانني, أولهما محمد زغلول كامل أصغر الضباط الأحرار وهو عضو هيئة مكتب الرئيس عبدالناصر وثانيهما أحمد كامل محافظ أسيوط في ذلك الزمان, وهو من ضمته أيضا قائمة من تحركوا ليلة الثالث والعشرين من يوليو1952, وسر الصداقة مع الاثنين هو الإيمان المشترك بأن العدل الاجتماعي لا يمكن أن يتم علي أيدي الطبقة الجديدة الوليدة التي تبيع الولاء للثورة وتخونها كل صباح بسلوك التعالي أو اقتناص الفرص والمناصب. حدثني أحمد كامل تليفونيا من أسيوط ليدعوني لمشاهدة تجربة تكوين فرق فنية من شباب أسيوط. وقبل السفر إلي أسيوط كان لابد من استئذان الكاتب أحمد حمروش الذي كان يرأس تحرير روزاليوسف في تلك الأيام. ولأن المناخ كان قلقا, كان يبدو عليه توقع الأسوأ, قال الحرب قادمة لا محالة, فمن يغلق خليج العقبة في وجه بواخر إسرائيل لابد أن يكون مستعدا. ولم تكن الألسنة قادرة علي البوح بأن القيادة العسكرية توغلت في مهام محلية كإدارة النقل العام علي سبيل المثال, ويعلوها هاجس أمن النظام فوق أي أمر آخر. استقبلني علي محطة أسيوط محمد عثمان إسماعيل أمين الاتحاد الاشتراكي بالمحافظة, وكان أعلي الأصوات ترديدا لشعارات الثورة, بينما سلوكه يؤكد أنه من أهل الثقة لا أهل الخبرة, وهو من قام بعد سنوات بفصل العديد من الصحفيين الكبار من مقام أحمد بهاء الدين وتوفيق الحكيم وفتحي غانم, بدعوي أنهم مناهضون للسادات. في صباح الخامس من يونيو ركبت السيارة لأري قرية بني مر التي أنجبت جمال عبدالناصر, ودق التليفون في دوار العمدة لأسمع المحافظ أحمد كامل يدعوني للعودة الفورية إلي أسيوط, فقد بدأت الحرب. كان أحمد كامل أحد المتوقعين لهزيمة هائلة, وركبت قطار العودة إلي القاهرة لأري من نافذته المطار السري في بني سويف, وأصل إلي القاهرة لأعرف من زغلول كامل أن الهزيمة قد وقعت, لكنه كان من أوائل من قال بعد لحظات من بيان عبد الناصر بقبول العودة عن الاستقالة الآن سقطت طبقة أهل الثقة في كل موقع, ولن يتولي أحد منهم موقعا إلا إن كان أهلا له. ووسط شجن المرارة الزاعق في النفس جاء نبأ تولي العقل الذهبي لرئاسة أركان القوات المسلحة, الفريق عبدالمنعم رياض. وقدم المصريون مليون شاب من خلاصة المتعلمين ليكونوا مقاتلين علي خط النار. قال أحمد كامل في زيارته إلي القاهرة يوم الحادي عشر من يونيو إن المصريين اختطفوا جمال عبدالناصر من دائرة أهل الثقة ليعيدوا صياغة طاقته الهائلة ليقود رحلة إزالة الهزيمة. اندهشت من كلماته التي أكدها بعد ساعات النحات المصري كمال خليفة, استطاع الشعب المصري أن يعيد صياغة تفكير جمال عبدالناصر وأجبروه علي التنازل عن القناعة المستقرة في وجدانه منذ اليوم الأول لثورة يوليو, القناعة القائلة بأن أمن النظام له المرتبة الأولي, وصارت القناعة الآن أن أمن الوطن ككل فوق كل اعتبار. وغزل المصريون من نسج الشباب المصري جيشا من المقاتلين علي خط النار, وقدموا تضحيات تفوق الخيال, بل لم يتوقف العمل في الحلم الكبير الذي ترصدته القوي الحريصة علي تخلف مصر, ألا وهو السد العالي. وبعد ستة أعوام من الصمود والتدريب والبناء, جاء الانتصار كمعجزة مصرية شاملة. ولكن بعد النصر مباشرة طفا مرة أخري هاجس أمن النظام فوق أمن الوطن ككل, فتزاحم أهل الثقة حول كعكة الانتصار, فهجمت جحافل أهل الثقة علي ثمار يوليو من تصنيع وإنتاج, فبدأ التفكير في بيع القطاع العام, وبدأت ملامح تجميع الثروة في يد قلة, استطاعت بعد اغتيال السادات أن تعلن زواج السلطة بالثروة. وبعد جمود الركود ثلاثة عقود جاءت ثورة الخامس والعشرين من يناير ليقفز نوع آخر من أهل الثقة إلي موقع الإدارة, وكل مساء أتساءل: ألم نستفد من تجربة قصر نظر ووعي أهل الثقة؟ ومازال السؤال قائما حتي كتابة هذه السطور. لمزيد من مقالات منير عامر