بين موجات التطاحن السياسي التي تجتاحنا بعنف ولا يبدو في الأفق ما يشير إلي انحسارها, مازلنا نبحث عن حوار موضوعي مفقود, ونتلمس في المشهد ومضات تأتي كشهب, لكنها تؤكد أن ثمة أملا مازال ينبض في عروق وقلب وطن عصي علي الإندثار أو الاختطاف بثراء تنوعه وتعدده ورقائق حضارته. كانت الكاتدرائية المرقسية بالعباسية في قلب الأحداث الأيام الماضية, كما كانت قبل نحو نصف قرن, حين كان المد القومي في عنفوانه, كانت أرضها ديرا لا يلتفت إليه أحد وقت كانت القاهرة تقف بخطها العمراني عند تخومها لتبدأ بعدها صحراء العباسية بطابعها العسكري حيث ثكنات الجيش, كان الود موصولا بين الزعيم عبد الناصر وبين البابا كيرلس السادس, التقي حلماهما في لحظة فارقة, حلم الجغرافيا عند الرئيس وحلم التاريخ عند البابا, الرئيس يمد بصره لتقود الكنيسة المصرية المسيحية الشرقية إسوة بالفاتيكان في مجاله الغربي, فهي صاحبة السبق والتأسيس لنسق الرهبنة الديرية والمتوحدة ومنها انتقلت إلي كل بقاع الدنيا, وإلي الغرب, وكان البابا يتطلع إلي بعث وتجديد الكنيسة بإعادة التواصل مع مدرسة الإسكندرية اللاهوتية التي كانت تمد الكنيسة في عصورها الذهبية ببطاركتها من اساتذتها وعلمائها, وبقي ان تتوافر له الكاتدرائية الجامعة القادرة علي تفعيل وترجمة حلمه, لتبدأ ملحمة بناء الكاتدرائة, وتشهد حكايات مصرية مؤكدة للاندماج الوطني فيسارع أبناء الرئيس في واحدة من زيارات البابا لبيتهم بكسر حصالاتهم وتجميع ما بها وإعطائه كمساهمة تلقائية من أطفال مصريين ليضعها البابا في منديله كما يفعل الفلاح المصري البسيط ويبادر ناصر بالمساهمة الرسمية بنحو مائة الف جنيه للبدء في العمل., كانت المواطنة فعلا علي الأرض حياة معاشة قبل ان تكون نصا في الدستور, والمفارقة أنها حين أصبحت فيما بعد نصا كانت قد غادرت موقعها علي الأرض, لذلك كان غيابها مجددا من الدستور في طبعته المشوهة متسقا مع الردة الحضارية في دورة جديدة للصراع بين المد التنويري واليمين المتطرف. شموخ الكاتدرائية لم يقتصر علي مبانيها, بل يمتد شموخها إلي جذورها المصرية وتاريخها الذي إنحاز إلي وطنيتها في مواجهة موجات الاستهداف المتوالية والتي كانت احدي ذراها في عصر الاستشهاد تحت حكم الرومان والذي جعلته بعبقرية نقطة البدء لتقويمها القبطي المنسوب للشهداء, وبقيت حارسة للإيمان لتهدي العالم المسيحي في عصر المجامع الذي بدأ في القرن الرابع ضوابط الإيمان مصاغة بتعبيرات لاهوتية مبدعة خطها قلم الشاب السكندري البابا فيما بعد اثناسيوس في قانون الإيمان ومازال يتردد في جنبات كنائس المسكونة بأسرها, والذي يستهله بجوهر إيماننا بالحقيقة نؤمن بإله واحد.. ويختتم بإعلان الرجاء القائم والدائم.. ننتظر قيامة الأموات وحياة الدهر الآتي, وكأني به يؤكد في إيمانه كل المفاهيم المصرية التي سجلتها متون الأهرام في الوحدانية والخلود. هاهي الكاتدرائية تحتل موقعا متقدما في دائرة الضوء مجددا, مرتين في ايام معدودات, فقد انتبهت قوي اليمين الرجعية إلي أن عقبتين تقفان أمام مشروعها المفارق للحضارة وللمصرية بتعددها وتنوعها الذي هو سر ثرائها, الكاتدرائية والأزهر, فتحرك خلاياها للهجوم علي كليهما, لتوقظ من جديد الحس المصري الذي يتكاتف للدفاع عنهما, وتشهد الكاتدرائية موجات تأييد شعبية عارمة, وتخرج مسيرات حاشدة من مسجد النور بالعباسية ومسجد الفتح بميدان رمسيس ليصنعا حوائط بشرية لحمايتها, الله عليك يامصر..كم احبك, ثم يأتي عيد القيامة ومعه تنطلق اصوات تحمل فحيحا يدعو لعدم تهنئة المصريين المسيحيين( الأقباط) بعيدهم, لتجد الكاتدرائية نفسها مجددا في بحر من التهاني حتي ممن يقفون علي خطوط التماس, ويقف البابا تواضروس ليشكر المهنئين, ونجد انفسنا أمام استفتاء تلقائي ترجم في تباين استقبال الحضور لرموز المهنئين بين صمت مطبق وكأن علي رأسهم الطير, وهدير التصفيق الذي هز اركان الكنيسة, وهي رسالة جديرة بالتوقف والتأسيس عليها, للسعي لمصالحة حقيقية نحو غد أفضل يجفف منابع النفور لحساب وطن لكل المصريين. بين الهجوم والاستفتاء التلقائي المحمل بالرسائل تأتي كلمات البابا التي لا تخلو بدورها من الرسائل, فتؤكد في كلمات قليلة ان الكنيسة منتبهة ومتيقظة لدورها الروحي والرعوي ولن تنزلق الي الصراع السياسي الذي لا تملك أدواته, ولا يستهويها, ليحكي عن واقعة شهدتها الكنيسة في القرن الرابع كان بطلها القديس يوحنا ذهبي الفم في مدينة انطاكية العاصمة السياسية لإقليم سوريا تحت حكم الإمبراطورية الرومانية, ففي العام387 ميلادية يفرض الإمبراطور ضرائب جديدة ليثور الشعب ويحطم في ثورته تماثيل الإمبراطور الذي يجند حملة لمعاقبتهم والتنكيل بهم فيهرعون للكنيسة يحتمون بجدرانها, فيمتنع علي الجنود اقتحامها وفق قواعد ذلك الزمان, وفيما تسارع الكنيسة لتهدئة الإمبراطور, يبادر القديس يوحنا بتنظيم سلسلة من العظات تدور حول التوبة والحياة المسيحية المستقيمة تمتد لثلاثة اسابيع(21 عظة) ليعيد الشعب الي جادة الإيمان, وسميت في الرصد التاريخي عظات التماثيل, كانت رسالة البابا تواضروس واضحة: الكنيسة لن تفرط في رسالتها; الدعوة للتوبة والاستعداد للأبدية, ولن تخوض معركة ليست لها. ظني أن ما حدث بين موجات الكراهية بالفعل والقول, وبين ثبات الكاتدرائية علي موقفها المبدئي وما كشفته ردود أفعال الأطراف المختلفة كان اختبارا للمواطنة.. هناك من نجح بامتياز وهناك من هو باق للإعادة.. وهناك من استنفد مرات الرسوب.. لمزيد من مقالات كمال زاخر موسى