للأسف, لا يوجد عند القراء المتحمسين للتيارات الإسلامية سوي رد واحد, وحجة واحدة, يرددونها دون ملل أو كلل, وهي أن كل مختلف عنهم أو معهم علماني حاقد علي الإسلام, وكل معارضة سياسية للحزب السياسي الحاكم هي كراهية للمشروع الإسلامي, ومحاولة لعرقلته أو تحطيمه. وحتي إذا تساءل مواطن مسلم: أين شعارات الثورة التي يتمسح فيها الرئيس القائم, وماذا عن الخبز الذي لا يزال المواطنون الفقراء محرومين منه وأشياء أخري كثيرة؟ أو عن العدل الاجتماعي الذي ضاع إلي الأبد؟ أو عن حرية الاختلاف مقرونة بحق كل القوي السياسية والاجتماعية أن يكون لها الحضور المكافئ علي كل المستويات؟ وأخيرا, ماذا عن كرامة الإنسان المصري التي أهدرت في حالات كثيرة جدا؟ لا إجابة عن كل هذه الأسئلة إلا إجابة واحدة متكررة دون ملل أو حتي تأن في التفكير: أنتم علمانيون حاقدون علي المشروع الإسلامي. وحتي لو كنتم مسلمين, فإسلامكم باطل لأنكم علمانيون كارهون للإسلام, شأنكم في ذلك شأن الليبراليين والاشتراكيين وأشباههم. ودائما يتكرر هذا الكلام في مواجهة أي نقد يوجه إلي المجموعات السياسية الحاكمة التي سرعان ما يندفع المؤيدون لها إلي الهجوم بوصفه خير وسيلة للدفاع, وإلي التشكيك في حقيقة المعتقد الديني للمخالف, بدلا من مقارعة الحجة بالحجة, ومن غير الاحتكام إلي أرض الواقع الذي يصرخ فيه المواطنون الذين فقدوا العدل الاجتماعي, والتوافق السياسي, والائتلاف الوطني. والطريف أن هؤلاء الذين يردون علي نقد إخوانهم من المسلمين بأنهم من زطائفة العلمانيين الحاقدين علي الإسلامس إنما يقومون بفعل التمييز الذي يحاولون إنكاره بغير هدي أو دليل واحد يستند إلي العقل أو الواقع. وللأسف, فإن هذا ما أجده من ردود أفعال عنيفة علي مقالاتي, خصوصا فيما يتصل منها بالتمييز, وهي ردود تنتهي بوضعي في خانة العلمانيين الحاقدين علي الإسلام وذلك دون أن يكلف أصحاب هذا الاتهام أنفسهم بمراجعة مفهوم العلمانية الذي قد لا يتصل بالكفر من بعيد أو قريب. والعلمانية- يا سادة- نسبة إلي العلم( بفتح العين وتسكين اللام). وهي تعني الدنيا. والنسبة إليها علماني مثل عقلاني التي ترجع إلي كلمة العقل( بفتح العين وتسكين اللام). ولذلك فهي تعني النظرة الدنيوية إلي شئون الحياة التي نحياها, علي أساس مبدأ نحن أعلم بشئون دنيانا, وأن قضايا الحكم والنظام السياسي, يجتهد فيها أهل الدنيا من المسلمين الذين ترك الله لهم, أمر تنظيم شئون دنياهم وطرائق حكمها وإدارتها بما يحقق المصلحة المشتركة لهم, وبما يجسد قيم العدل والتكافل والحرية والكرامة وغيرها من القيم التي ينبني عليها جوهر الدين في نصوصه المقدسة. هكذا أصبح السيد محمد مرسي الإخواني رئيسا لجمهورية, أغلبيتها مسلمة وأقليتها مسيحية, وهو مطالب بتحقيق المبادئ الكلية للإسلام الذي يربطنا وإياه بإقامة العدل وحدود المواطنة التي تجعل للأقلية ما للأغلبية المسلمة دون تمييز. وتغيب صفة العدل عن حكم السيد مرسي لو اختل ميزان المواطنة, وانقلب. وحتي لو نسبنا العلمانية إلي العلم( بكسر العين وتسكين اللام), فإن المقصد لن يقترب بنا من الخروج علي الدين; فالعلمانية هي تطبيق التفكير العلمي في إدارة شئون حياتنا الدنيوية من تخطيط للاقتصاد أو تنظيم للسكان والحفاظ علي أعلي مستوي لصحتهم البدنية والعقلانية. أما كون العلمانية مرادفة للكفر أو العداء للدين, فهذا لا يصح إلا عند أولئك الذين يمارسون فعل التمييز صباح مساء, علي سبيل التكرار والتقليد والنقل دون إعمال للعقل الذي هو أسمي القدرات التي منحنا الله إياها, كي نميز به الصواب من الخطأ, والحق من الباطل, وأن تعرض عليه ما نسمعه ونتلقاه عن أقطاب الإخوان أو السلفية فما قبله العقل السليم فهو حق, وما رفضه هذا العقل فهو باطل, مهما كانت منزلة القائل أو مكانته بين فصائل التيارات الإسلامية. أما ما نراه اليوم من ممارسات تيار الإسلام السياسي, فهو قائم علي التمييز ضد المسلمين والمسيحيين والمرأة.. إلي آخر كل الطوائف المخالفة لهم. والتمييز يبدأ من التسمية, يستوي في ذلك أن يكون المسمي الإخوان المسلمين أو الشبان المسلمين. وهي جمعية تأسست في القاهرة سنة1927, وتهدف إلي تنمية الشباب المسلم عن طريق الندوات والمعسكرات. وهي سابقة علي تأسيس الإخوان المسلمين بعام واحد, وتلتقي معها في أهداف, ليس من بينها الطموح إلي الحكم أو الاستيلاء عليه أو احتكاره أو حتي اغتصابه, حتي وإن اغتيل حسن البنا عند خروجه منها. إن أي تسمية تحجز صفة الإسلام لأصحابها وأعضائها, إنما تمنعه ضمنا عن غيرها, وهذا هو أول التمييز يا سادة. أما ما نراه من تمييز ضد المسلمين أنفسهم فهو قديم, يماثلهم في ذلك أهل الديانات الأخري بما فيها المسيحية التي يوقع التمييز فيها أصحاب كل مذهب علي غيرهم من المنتمين إلي مذاهبها الأساسية: الكاثوليك, البروتستانت, الأرثوذكس, الإنجيليين. والحروب الدينية التي وقعت بسبب هذا التمييز, صنعت من الجرائم ما جعل المسيحية المعاصرة تفر من عنف التمييز فرار السليم من الأجرب. ولكن المسلمين لا يزالون مبتلين بهذا الداء الذي جعلهم ينقسمون إلي شيع وأحزاب, تعصب بعضها ضد بعضها هو فتنة مستمرة, لا تزال تسهم في ضياع وحدة المسلمين وتكرار كوارثهم, ولذلك تنادي الحكماء من علماء الفرق والمذاهب في كل زمان ومكان إلي التقريب بين الإخوة الأعداء, واحتضن الأزهر التيار العقلاني الوسطي للتقريب بين مذاهب الإسلاميين, تجنبا لضعف المسلمين عموما بسبب عمق الشروخ والانقسامات, وما تحدثه من كوارث متكررة بسبب دعاوي الفتنة التي نسمعها الآن من بعض جماعات التعصب التي تسعي بنا إلي كوارث دون أن تدري, غير مدركة أن التقريب بين مذاهب الإسلاميين كلهم هو الطريق السريع إلي المستقبل, وإلا فما جدوي صراع الشيعي الزيدي في اليمن مع الشيعي الاثني عشري في إيران, وما جدوي صراع هؤلاء مع الأزارقة في الجزائر أو الأباضية في عمان. وما جدوي العداء الذي لا يخفيه عدد من أهل السنة الآن- ضد الشيعة. أليس الأجدي بالمسلمين والأجدر بهم أن يتآلفوا ويتوافقوا علي العون في خوض معركة التقدم التي يعرقلهم عن خوضها فوارق توارثوها دون إعمال عقل وتمحيص. وصدقوني نحن في أمس الحاجة إلي عقلاء يواصلون دعوي التقريب بين المذاهب, ومعهم عقلاء ينهضون بعبء الحوار بين الأديان. إن الحوار هو لغة العقل, بينما التقريب هو طبيعة التفكير السليم. والتفكير فريضة إسلامية. ولذلك أدعو هؤلاء المسلمين المتعصبين إلي الفهم المجدد لقوله تعالي: ادع إلي سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة( النحل/125). لمزيد من مقالات جابر عصفور