بعيدا عن الأحداث المؤسفة التي شاهدنا خلالها أعلام القاعدة وصور بن لادن ترتفع أعلى مبنى مقر الأمن الوطني، وبعيدا عن تكهنات التعديل الوزاري المرتقب، وبعيدا عن التصريحات التي لا تسمن ولا تغني من جوع في عيد العمال مع استمرار إهانتهم وعدم احترام حقوقهم، وعدم رجوع الآلاف منهم إلى شركاتهم التي عادت ملكيتها بحكم القضاء إلى الحكومة، بعيدا عن كل هذا، إنتهت المناقشة مع أحد الزملاء الأعزاء بأنه أصبح لا يأبه بما يحدث في مصر لأن أهلها لا يعيرونها الاهتمام وأن خيرها دائما للغرباء.. ومع اعترافي بأن اليأس في هذه المرحلة هو الخيانة بعينها، وبرغم أن كل ما نراه ونعيشه على أرض الكنانة يؤكد بما لا يدع مجالا للشك أننا نسير إلى الخلف بسرعة فائقة في كل المجالات، آثرت الخروج من هذا المناخ المؤلم والمحبط واستكمال قراءة كتاب أحتفظ به عسى أن يمهلني اليوم بعض دقائق لأسبح بين سطور الكاتب العملاق مصطفى صادق الرافعي وأعود بها إلى زمن التعبير الأدبي الراقي الرفيع، علّ القراءة تريح ولو قليلا من كل ما نتنفسه من تلوث طال كل شيء حولنا من فكر وقول وأفعال. لقد أعطى الرافعي لكتابه عنوانا رشيقا ورومانسيا هو : " أوان الورد .. رسائله ورسائلها" وهو عبارة عن مجموعة من الخواطر عن فلسفة الحب والعشق والجمال في صورة رسائل يناجي بها الكاتب محبوبته ويتخيل ردها. والرسالة التي نحن بصددها في هذا الكتاب هي رسالة عنوانها : " في العتاب "، ويشرح الرافعي فيها كيف أنه أراد بهذه الرسالة إيلام الحبيبة التي تأخرت - ربما عن عمد - في ردها على رسالة سابقة له، فذهب في عتابه على طريق السجع لأنها تكره هذه الطريقة، وذكر في حواشي الرسالة قول العباس ابن الأحنف : " إن بعض العتاب يدعو العتاب، ويؤذي به المحب الحبيبا ! فهو عتاب لمحض التهكم وأذى المحب، لا للاستعطاف، ولا الاسترضاء ".. يقول الرافعي في عتابه المؤلم : " وانتظرت رد كتابي، أو ورقة من شجرة عتابي، فمازالت تتقطع الساعة من الساعة ويلتقي اليوم باليوم، ويذهب اللوم إلى العتاب، ويجيء العتاب إلى اللوم، وكتابك على ذلك كأنه مغمى عليه لا هو في يقظة ولا هو في نوم ... فسبحان من علم آدم الأسماء كلها لينطق بها وعلمك أنت من دون أبنائه وبناته السكوت ..". ويسترسل الكاتب العملاق في أسلوبه الساحر الذي يرتفع إلى أعلى آفاق العشق، فيقول :" فإن كان قلبك يا سيدتي شيئا غير القلوب فما نحن شيئا غير الناس، وإن كنت هندسة وحدها في بناء الحب فما خُلقت أعمارنا في هندستك للقياس، وهبي قلبك خلق (مربعا) أفلا يسعنا (ضلع) من أضلاعه، أو (مدرا) أفلا يمسكنا (محيطه) في (نقطة) من إنخفاضه أو إرتفاعه، وهبيه (مثلثا) فاجعلينا منه بقية في (الزاوية) أو (مستطيلا) فدعينا نمتد معه ولو إلى ناحية ...! "، وكم نشعر بالتهكم والقسوة في لعبه بالكلمات التي ينهي بها عتابه فيقول : " مع الذكر نسيان، وما عسى أن ينقص العالم بإنسانة أو إنسان، ومن ظن (بصرفنا) عن نفسه أنه كبير، جعلناه من (نحونا) في باب (التصغير)، ومثلنا لا يتكلم إلا بفائدة ولا يسكت إلا لفائدة، فإن أخطأنا معك في واحدة أصلحناها بواحدة ..." وما إن أنتهت الرسالة حتى عدت إلى أرض الواقع والأحداث الجارية... ترى .. لو عاتبت مصر أبنائها على ما يفعلونه بها خاصة من اعتقدوا أنهم أمتلكوها وحدهم وبدأوا يشرّعون لبيع مناطق عدة فيها، هل ستنتهج أسلوب عتاب الإسترضاء أو التهكم ؟! وما عساها تقول بعد كل ما أصابها ويصيبها من أبنائها .. اللهم افرغ علينا صبرا وعلى مصر مما تعيشه حتى يحين الخلاص. [email protected] لمزيد من مقالات رشا حنفى