مع كل صفحة تقلبها من كتاب عنف الدكتاتورية للكاتب النمساوي ستيفان زفايغ وترجمة فارس يواكيم( دار الفرات, بيروت) عليك ان تراجع تاريخ الواقعة التي يرويها, لتتأكد انها جرت في أوروبا قبل نحو500 سنة ولتعرف أن التاريخ لا يعيد نفسه, فقط الوقائع تتشابه, لتعطينا نقطة الامل التي تمكن من تجاوز بؤس الراهن وادراكه. وربما انطلاقا من الامل اختار الاعلامي اللبناني فارس يواكيم المقيم بألمانيا العودة لهذا النص ليترجمه بمهارة في هذا التوقيت العربي الحرج كمن يرغب في اهداء العظة. فالكتاب يقدم نموذجا غربيا للديكتاتور لا يختلف عن أي ديكتاتور في العالم, كما يشرح يواكيم في مقدمته اللافتة عارضا ظروف تأليف الكتاب الذي اشتهر مؤلفه الكاتب النمساوي ستيفان زفايغ( مواليد فيينا في28 تشرين الثاني/ نوفمبر1881) أكثر ما اشتهر كروائي, كان شاعرا وكاتب قصة قصيرة ومؤلفا مسرحيا وكاتب سير ومترجما, لكن إبداعه الروائي هو الذي انتشر في العالم, عبر الترجمات إلي لغات مختلفة, ومنها العربية, وقد ترجم إليها العديد من رواياته, وتضاعف رواجها بعد اقتباس معظمها في الأفلام السينمائية العالمية, والعربية أيضا, ومنها رسالة من سيدة مجهولة. ينتمي أدبه إلي النيو-رومانتيكية شارك زفايغ كمجند في الحرب العالمية الأولي, وعرف أهوال الحروب ونتائجها اللاحقة. في عام1933 وصل النازيون إلي السلطة بانتخاب ديمقراطي, لكنهم ما لبثوا أن حولوا ألمانيا إلي ديكتاتورية تنافس الستالينية في عنفها وبشاعتها. وأدرك زفايغ الخطر, ولجأ إلي التاريخ, وألبس رأيه ثوبا من الماضي البعيد, وترك للقراء أمر استكشاف التشابه الكبير بين ديكتاتورية الأمس وطغيان اليوم. وفي العام1936, نشر زفايغ هذا الكتاب, وكان بعنوان كاستيليو ضد كالفن, أو ضمير ضد العنف, واللافت ستيفان زفايغ نفسه لم يسلم من عمليات التصفية فقد أدرك أن الديكتاتورية آخذة في تصفية الخصوم, وأن جيوشا من المنافقين الانتهازيين يؤيدونها, فما كان منه إلا أن هاجر عام1938 إلي لندن, ثم عام1940 إلي البرازيل. كانت الحرب العالمية الثانية قد اشتعلت, فدب اليأس في نفس زفايغ, وانتهي به الأمر إلي الانتحار هو وزوجته, في بتروبوليس علي مقربة من ريو دو جانيرو يوم22 شباط( فبراير).1942 والاغرب أن الأديب الألماني الكبير توماس مان حين قرأ الكتاب لدي صدوره, كتب لزفايغ في30 أيار( مايو)1936 الرسالة التالية: عزيزي السيد ستيفان زفايغ المحترم, منذ زمن بعيد لم أقرأ كتابا بمثل الحماسة والانجذاب إلي كتابك عن كاستيليو, وبمثل الإعجاب بمضمونه وأسلوبه. هو كتاب ممتع ومؤثر للغاية, يجمع عبر مادة تاريخية كل ما يدعو إلي التقزز والتعاطف في عصرنا. إنه الانبساط والانقباض في آن, ومن ذلك نستخلص العبرة: دائما يتكرر الشيء ذاته. ما كنت أعرف شيئا عن كاستيليو, بيد أني سعدت حقا بمعرفته, وعقدت معه صداقة رجعت بي إلي القرون الغابرة. أشكرك علي هذا الكتاب. مع أطيب التحيات القلبية. في الكتاب يعود زفايغ للتاريخ لمواجهة قمع النازية التي جاءت الي الحكم في المانيا بأغلبية منتخبة عاد ليتأمل وقائع جرت منذ العام1536 حيث تجمع أهالي مدينة جنيف في يوم السبت21 أيار1536 في الساحة العامة بعدما استدعوا اليها بطريقة احتفالية وعلي عزف النفير, أعلنوا بالاجماع وبرفع الأيدي, أنهم اعتبارا من حينه يريدون العيش بحسب الانجيل وكلمة الله, وعبر الاستفتاء أرقي منجزات الديمقراطية وباسم الاصلاح الذي دعا اليه مارتن لوثر كنيسة وتسفينغلي لتطهير الكنيسةس س س كالفن المطلقة, ذلك المهاجر الفرنسي بعد ان اعتبره الداعية فاريلس كالفن تعاليم الديانة المسيحية الذي ألفه عام1535 الدليل والمرشد والمؤلف المشتمل علي قوانين الكنيسة البروتستانتية. وهكذا تحول كالفن من مجرد قارئ الكتاب المقدس وواعظ بطلا منقذا فقبض علي السلطة و حول الجمهورية الديمقراطية الي ديكتاتورية ثيوقراطية خاضعة للقساوسة الأوصياء علي كلام الله. وفي مقعد السلطة لا يتواني كالفن عن اعتماد كل الوسائل لتحقيق غاياته حتي العنف تجاه الذات وتجاه الآخرين, بما في ذلك النفي والاضطهاد والقضاء علي كل لذة وحتي القتل, حيث ان دينامية السلطة المطلقة لا تستوي إلا بصورة القائد الغائب وعودته بطلا بجريمة تختصر كل الجرائم, لذا أصدر حكمه القاضي بإحراق الزنديق سيرفيت, لمناهضته عقيدة كالفن. وعبر الصراع بين الراهب جان كالفن والمصلح كاستيليو تتجلي قصة المواجهة الابدية بين النقل والعقل, انها صرخة يطلقها زفايغ لحماية التعددية وقيم التسامح. و كاستيلو في الكتاب هو رمز لكل مقاوم في التاريخ, فقد كانت رسالته التي جاهر بها وهي الا يجبر انسان ما علي عقيدة ما وهي رسالة لم تصدر الا عن روح الانسانية الخالدة وهو من كتب في منشور التسامح قبل جان لوك وهيوم وفولتير مطالبا بحقوق حرية الرأي.