بدت إسطنبول في هذا الشهر وكأنها علي موعد مع الصخب الثقافي تارة, وقد تجسد في أشكال احتفالية من خلال مناسبات فنية, وأخري أخذت منحي احتجاجيا لما آلت اليه منشأت يرونها اشبه بالصروح الشامخة والتي امتزج فيها التاريخ بالتراث وفي إحداها تختزن ذاكرة الفن السابع, وأنها باتت جزءا من معالم الحياة فيما كانت تشكل مركز الخلافة خلال حقبة الإمبراطورية العثمانية المنقضية. ففي شارع الثامن, هكذا هو اسمه, والكائن بضاحية كادي كوي بالشطر الآسيوي من المدينة العامرة, وعلي غير عادته, بدا مزدحما, مكتظا بالبشر مواطنين وأجانب, ليس لأنه متاخم لاستاد شكرو سرا أوغلو, القلعة الكروية لنادي فنار باهتشيه الشهير محليا وأوروبيا, بل كونه أستضاف حدثين فنيين بالتزامن دون أن يكون هناك ترتيب, وشخصيا كان الأمر مفاجأة لي فقد اكتشفت إحدي دور المسرح, تعرض واحدة من روائع ويليام شكسبير المعروفة أنطونيو وكيلوباترا برؤية تركية. في ذات الشارع كان جمهور آخر يصطف في طوابير طويلة لعله يتمكن من اقتناص تذكرة لمشاهدة شريط سينمائي روائي أخاذ تعود به المبدعة الألمانية مارجريتا فون تروتا إلي مهرجان إسطنبول السينمائي في دورته الثانية والثلاثين,. غير أن هذه الأجواء الاحتفالية, لم تمر دون آلام وأوجاع, وهي أيضا تتصل بالشأن الثقافي, فعلي شاشات التلفاز شاهد الاتراك قوات الشرطة بهراواتهم, تتقدمها مدرعات راحت تطلق بكل قسوة, دون ان يكون هناك مبرر, المياه الساخنة علي المتجمهرين الذين كانوا يعبرون سلميا عن غضبهم واستيائهم لبدء اتخاذ الإجراءات الفعلية, لهدم أقدم دار عرض سينمائي وهي الأشهر في عموم الاناضول, بعد اعوام ليست بالقليلة, خلالها احتدم الجدل والنقاش للحيلولة دون وصول معاول الإزالة, للبناية الأثرية وشاشتها الفضية والتي تتسع قاعتها إلي ما يزيد علي850 مشاهد, إنها سينماEMEK, والتي تقع في استقلال وعلي بعد خطوات من ميدان تقسيم, وحتي العام الماضي, وفي أبريل أيضا, كان المثقفون والفنانون علي قناعة في أن حل ما سيبقيها لتظل كما هي. لكن يبدو أن سطوة المال وشهوة بناء المولات الاستهلاكية الفارهة, انتصرتا, فقدر صدر القرار النهائي, بطي صفحتها إلي الأبد, بتجريدها من أعمدتها, وحوائطها تمهيدا لتسويتها بالارض تماما, وتسليمها إلي من وقع عليهم الاختيار ليدشنوا علي أطلالها فروعا لارقي بيوت الموضة في تركيا والعالم ومطاعم للوجبات السريعة. ولأن إسطنبول كانت تحتفل بفعاليات مهرجانها السينمائي السنوي فقد انتهز المصرون علي وجود سينما إيميك ليعلنوا مجددا في حفل الافتتاح الذي حظي بدوره باهتمام دولي, رفضهم للمخطط الساعي إلي تقويض شاهد حي علي تطور الفن السابع في بلادهم, غير أنهم زادوا ليتهموا أهل الابداع بالتقاعس عن حماية ما اعتبروه ركنا من أركان الثقافة السينمائية, وعلي الخط دخل المخرج الفرنسي اليوناني الأصل كوستا جافراس صاحب أفلام زد والمفقود والذي كان ضيف المهرجان ليؤكد دعمه للمناصرين للدار التاريخية داعيا في الوقت نفسه الحكومة بالتدخل فورا ووقف مذبحة السينما وفي جمل لا تخل من دلالة خاطب يلماظ اردوغان( وهو لا ينتمي لرئيس الوزراء بصلة فقط هو تشابه أسماء) قائلا دعونا ندافع عن جهدنا والمصادفة أن ايميك تعني حرفيا مجهود. كل هذا يظل رهنا برضاء الساسة زعماء العدالة والتنمية الحاكم وفي مقدمتهم بطبيعة الحال رجب طيب اردوغان, لكن كيف للأخير أن ينسي وقوف هؤلاء المثقفين ضد مشروعه بإعادة هيكلة ميدان تقسيم وتفريغه من السيارات ليتقصر علي المشاة بحجة أنه يطمس معالم الحداثة والعصرنة للميدان, إذن نحن أمام صراع بين تيارين قد يتسع شيئا فشيئا وربما ينذر بثورة غضب بدايتها سينما كانت قاعتها منبرا للتنديد بمحاولات وأد الديمقراطية والقضاء علي مبادئ الجمهورية العلمانية.