علي مدي الأشهر والأيام الماضية, تعيش مصر في دائرة مفرغة من الصراع السياسي والاحتقان الفكري حول كثير من القضايا بعضها حقيقي وكثير منها يغلب عليه طابع التخمين والتخوين. وهو ما يمكن ان يؤدي بالجميع الي خاتمة مأساوية إن لم تحسن الاطراف كلها الفهم والتصرف فيما آلت اليه الأوضاع الراهنة دون تهوين من جانب السلطة أو تهويل من جانب المعارضة, خوفا من ان يفتح باب حذر منه الكثيرون- العنف والعنف المضاد تمهيدا الي بدء احتراب داخلي بين اطراف كانوا يوما شركاء في ازاحة حكم الاستبداد الفردي, والبدء في مرحلة بناء ديمقراطي مازالت لبناته الاولي لم يتم تثبيت أسسها في أروقة المجتمع وثقافته. وهو ما يطرح علينا تساؤلا مركبا: هل فشلت الثورة المصرية؟ وهل فشل الثورة يمكن ان يتحول الي حرب أهلية؟ الحقيقة انه من الصعوبة بمكان حسم الاجابة عن التساؤل الاول حول هل فشلت الثورة, حيث تتباين الرؤي ومواقف الاطراف والتي يمكن اجمالها في موقفين يعبران عن طرفي المشهد السياسي, موقف القوي السياسية التي تتولي ادارة البلاد اليوم ومن يدور في فلكهم, حيث يرون ان الثورة ما زالت مستمرة في فكرها وفي طريقها نحو استكمال بناء مؤسسات الدولة, ووضع اسسها الصحيحة, وتغيير ثقافة المجتمع وفكره نحو اهداف الثورة المتمثلة في العيش والحرية والكرامة الانسانية والعدالة الاجتماعية. في حين تري القوي السياسية التي تتخذ من المعارضة منهجا أن الثورة سرقت او خطفت, وأن الاوضاع الراهنة تستوجب القيام بثورة جديدة لتصحيح الانحراف الذي اصاب مسار الثورة الاولي. وهكذا تعكس رؤية الطرفين مدي الغلو في نظرتهم للأوضاع, وانطلاقهم من رؤي ذاتية وانطباعات شخصية بعيدة عن الواقع المعاش في مصر اليوم. وهو ما يجعل من الصعب ترجيح كفة أي من الطرفين في تحليل المشهد الراهن. وليظل التساؤل الثاني أكثر اهمية في هذا التوقيت, هل فشل الثورة يتحول الي حرب أهلية, وتأتي الاجابة جلية من خلال توضيح أمرين مهمين: الأول أن المعارضة السياسية في اي دولة تلجأ الي الثورة حينما تستنفد كافة الوسائل والآليات للضغط علي النظام من أجل القيام بإصلاحات حقيقية تصحح مسار العمل السياسي, ولم يتبق امامها سوي هدم النظام المتصلب المتجمد الرافض للتغيير والتطوير, وإعادة بناء نظام جديد يحمل سمات وقسمات ومطالب وتطلعات الشعوب. علي الجانب الآخر, يلجأ النظام الحاكم اذا ما فشل في اثناء المجتمع عن حراكه ومطالبه إلي الحرب الاهلية لإعادة تقسيم المجتمع علي أسس جديدة بعيدة عن مفهوم المواطنة بهدف اذكاء روح الصراع المجتمعي علي اسس عرقية او إثنية او طائفية او مذهبية, حتي يتمكن من إعادة السيطرة عليه تطبيقا للقاعدة السياسية المرتبطة بسياسات الاستعمار الاجنبي زفرق تسدس. بمعني أكثر شمولا, الثورة أداة المجتمع لتغيير النظام, في حين ان الحرب الاهلية اداة النظام لتغيير المجتمع. أما الامر الثاني اذا كان من المفهوم ان الثورة تستهدف هدم النظام القديم بأفكاره ونظمه وسياساته وتأسيس نظام جديد برؤي تتفق مع طموحات الثورة وتطلعات القائمين بها والمؤيدين لها والمؤازرين لأفكارها, فإن نجاحها لن يتحقق إلا بتوافق الجميع, وتفهمهم حول اولويات العمل ومنطلقات التحرك بعيدا عن سياسات الاقصاء والاستبعاد والاستحواذ. وهو ما يتحقق ايضا اذا ما انتقل المجتمع من مرحلة الثورة الي الحرب الأهلية, فنادرا ما ينتصر احد طرفي الحرب الأهلية حيث ينتهي معظمها بتسويات سياسية بتقديم كل طرف فيها تنازلات وتراجعات. ولكن يظل الثمن المدفوع في الحالة الاخيرة أكثر فداحة وخطورة مقارنة بحالة الثورة. بمعني أكثر وضوحا, نجاح الثورة او الحرب الاهلية لا يكون إلا بالتوافق بين أطرافهما, فالثورة تتطلب توافقا بين القائمين بها, والحرب الاهلية تتطلب توافقا بين طرفيه. ومن هذا المنطلق, تكشف قراءة المشهد السياسي المصري اليوم عن ضرورة ان يدرك الجميع ان ادارة الاوطان ليست مجالا للمزايدات والبطولات والادعاءات واستعراض المواقف والتشدد في الرؤي, وإنما بناء الاوطان عملية مجتمعية اسسها المشاركة لا المغالبة.. والرؤية الممكنة المنطلقة من الواقع بتحدياته, والناظرة الي المستقبل بتطلعاته, وإلا خسر الجميع, وذلك هو الخسران المبين, فهل يفيقون قبل فوات الأوان؟ فلن ينفع الندم آنذاك. لمزيد من مقالات عماد المهدى