أدعي تخصصا في العلوم الشرعية. ومع ذلك, فإن دراسة القانون في الجامعات المصرية تتضمن جرعة معقولة من الدراسات الإسلامية لمدة أربع سنوات فضلا عن أن القانون المصري خاصة القانون المدني قد اعتمد في كثير من المواقع علي الفقه الإسلامي, كما أن أساتذة القانون كثيرا ما يتناولون العديد من الجوانب الشرعية في شروحهم لمختلف جوانب القانون المصري. وقد درسنا الشريعة في جامعة القاهرة علي أيدي علماء أفاضل من الأزهريين, أذكر منهم الشيخ علي الخفيف والشيخ محمد أبو زهرة والشيخ أحمد شلبي. ولعل من أهم المقررات التي درسناها هو موضوع أصول الفقه والذي يدرس في السنة الأخيرة, بعد ثلاث سنوات من الدراسة القانونية, مما جعل هذا المقرر أحد أهم المقررات الدراسية, مما يمكن أن يعتبر فلسفة القانون من وجهة الشريعة الإسلامية. ولقد درسنا هذا الموضوع علي كتاب فضيلة الشيخ عبد الوهاب خلاف. وكان كتابه يتميز بالدقة والعمق, مع السهولة والوضوح في الشرح. وإذا كانت أحكام الشريعة الإسلامية تبين أحكام الشرع في مختلف جوانب الحياة سواء في العبادات أو المعاملات, فإن أصول الفقه تبحث عن الأدلة الكلية للفقه والمباديء الأساسية في التفسير. وأهم وأشهر من وضع مباديء أصول الفقه هو الإمام الشافعي في كتابه الرسالة. وقد عاش الإمام الشافعي في القرن الهجري الثاني, بعد أن توسعت الدولة الإسلامية, ودخل الإسلام أعداد كبيرة من الشعوب, مما فتح الباب لتعدد الآراء, وأحيانا اختلاط المفاهيم, فأراد بوضع قواعد أصول الفقه توفير أكبر قدر من الانضباط في استخلاص الأحكام الشرعية. ولذلك, فقد غلب علي قواعد أصول الفقه وضع الضوابط علي تفسير واستنباط الأحكام والشروط الشرعية لذلك. فإذا ترك الحبل علي الغارب, فإنه يخشي أن تتعدد التفسيرات, وربما تتناقض, وقد تستنبط أحكام تخالف المقاصد الشرعية. ومن هنا أهمية وضع الضوابط والقيود خوفا من الفوضي والاضطراب والتعارض والتناقض. ولكن هناك, بالمقابل, اعتبارا آخر لا يقل أهمية وخطورة, وهو أن المجتمعات تتطور في أساليب معاشها, ووسائل إنتاجها وطرق اتصالاتها, فضلا عن ظهور حقائق علمية جديدة كل يوم. فالتغيير هو سنة الحياة. ومع تغير الظروف هناك حاجة إلي فهم جديد مناسب في ظل هذه التغيرات. وهكذا, هناك توازن مطلوب بين متطلبات تغيير الأوضاع وضرورة استقرار الأحكام. فلا يمكن تجاهل ما يحدث علي أرض الواقع من تغيرات, وفي الوقت نفسه فإن استقرار الأحكام شرط لاحترامها وفاعليتها. والسؤال, ما صلة كل هذا بالعلة والحكمة؟ وما علاقة ذلك بأصول الفقه, والإمام الشافعي؟. عند دراستنا لأصول الفقه, فقد كان أحد المعالم الرئيسية تلك القاعدة التي تقول بأن الأحكام تربط بعللها وليس بالحكمة منها. فما المقصود بالعلة وما هي الحكمة في الأحكام الشرعية؟. أما العلة, فهي الأمر الظاهر المنضبط والذي يرتبط بالحكم, في حين أن الحكمة هي الغاية النهائية من هذا الحكم والتي قد تخفي علي العباد. ولنأخذ لذلك مثالا. الآية الكريمة: فمن كان منكم مريضا أو علي سفر فعدة من أيام أخر.. فهذه الآية تبيح الإفطار في شهر الصيام في حالة السفر أو المرض. وهنا يقال بأن علة حكم إباحة الإفطار هي السفر أو المرض, وكلاهما أمر ظاهر ومنضبط, فلا لبس في معني السفر او المرض. أما الحكمة من هذا الحكم, فأمرها قد يكون محل خلاف, فقد يتعلق الأمر بما يترتب علي المرض أو السفر من مشقة. ولكن المشقة يمكن أن تتحقق في أحوال متعددة, ويمكن أن يختلف حولها العباد. ولذلك فإن سبب ربط الأحكام بالعلة وليس بالحكمة هو الرغبة في الوضوح والاستقرار وعدم فتح الباب للاختلاف بين البشر حول تحديد الغاية النهائية من هذا الحكم. وإذا كان علم أصول الفقه قد بدأ بشكل أساسي مع الإمام الشافعي في نهاية القرن الثاني من الهجرة, فإن ذلك لم يمنع من أن يحمل لنا التراث الإسلامي تاريخا زاخرا بالأحداث منذ عهد الخلفاء الراشدين. وقد عاصر هؤلاء حياة الرسول, عليه السلام, وصاحبوه في حياته وغزواته. وليس هناك من شك في إخلاصهم وصدقهم ورغبتهم في صيانة الدين وحمايته. وأشير هنا إلي أمرين مشهورين في حياة الخليفة عمر بن الخطاب, رضي الله عنه. أما الحدث الأول فهو ما فعله الخطاب مع المؤلفة قلوبهم. والمقصود بالمؤلفة قلوبهم هم من دخلوا في الإسلام من غير أن يرسخ الإيمان في قرارة نفوسهم. وكان النبي يعطيهم نصيبا من الزكاة من أجل تأليفهم, لما لهم من مكانة في مجتمعهم القرشي, وكل هذا من أجل مصلحة الإسلام. وعندما تولي عمر بن الخطاب, رضي الله عنه, الخلافة, فإنه أوقف صرف سهم المؤلفة قلوبهم برغم النص, لأنه رأي في ذلك مصلحة للإسلام, بعد أن قوي وعظمت شوكته واشتد عوده. فهنا إيقاف منح سهم المؤلفة قلوبهم, قد جاء تحقيقا لمقصد الشارع, فعندما أصبح الإسلام غنيا وقويا, لم تعد هناك حاجة إلي هؤلاء. ولذلك رأي عمر أن يرد سهم المؤلفة قلوبهم إلي بقية المخارج التي تدفع فيها الزكاة. فهل يمكن أن نستشف هنا, إلي أن الخليفة عمر قد استند في قراره إلي الحكمة من النص, وإن جاوز العلة( النص), وهي تأليف قلوب هؤلاء الذين دخلوا الإسلام ومازال إيمانهم ضعيفا. ولم يتوقف اجتهاد الخليفة عمر عند قضية المؤلفة قلوبهم, بل نراه أيضا يتخذ لمصلحة الإسلام موقفا مستقلا في توزيع غنائم الحرب. ففي عهد الرسول, عليه السلام, كانت غنائم الغزوات توزع علي المحاربين. فهذه هي السنة التي أخذت عن الرسول, عليه السلام. وتغيرت الظروف بعد ذلك عند فتح العرب أرض العراق, ثم مصر بعد وفاة الرسول, وطالب المحاربون حينذاك بأن توزع هذه الأراضي عليهم أسوة, بما كان يحدث مع غزوات الرسول. فأبي عمر وفرض الخراج علي أرض العراق وأرض مصر لمصلحة المسلمين كافة, ورفض توزيعها علي المحاربين. فالظاهر من سنة الرسول هو توزيع غنائم الحرب علي المحاربين, هذا ما فعله الرسول, عليه السلام, في كل الغزوات. وبذلك فإن العلة لهذه السنة الشريفة تبدو واضحة, وهي ما فعله الرسول مع الغنائم. وقد رأي عمر, رضي الله عنه, أن الأمور اختلفت, وظهرت دولة الإسلام, ومن الضروري حماية لهذه الدولة الجديدة أن تعود غنائم الحرب( في شكل الخراج) لكل أمة المسلمين, وليس بتوزيعها علي المحاربين وحدهم. ولعلنا نتذكر أنه علي حين أن المحاربين, في معظم غزوات الرسول, كانوا في الواقع معظم أنصاره من المسلمين. أما في عهد عمر, فإن عدد المحاربين, عند فتح العراق أو مصر, لم يكونوا أكثر أقلية بالمقارنة بعدد المسلمين حينذاك. ولذلك, فإن الحكمة تقتضي بأن تعود غنائم هذه الحروب لمصلحة المسلمين في مجموعهم وليس لقلة من المحاربين. وهنا أيضا يبدو لنا أن الخليفة عمر بن الخطاب قد استوحي في قراراته الحكمة ولم يتوقف عند العلة. وهكذا يتضح أن قواعد أصول الفقه الإسلامي, وإن كانت قد اعتمدت مبدأ ربط الأحكام بعللها وليس بحكمتها, فكثيرا ما رأينا أمثلة لكبار الصحابة والخلفاء من ركزوا النظر إلي الحكمة من النص والغاية من ورائه حماية لمصالح المسلمين. بل لعلنا نشير إلي أن الإمام الشافعي, والذي وضع أسس علم أصول الفقه, فإنه نفسه أخذ في الاعتبار تغير الظروف والأوضاع عندما عدل من مذهبه في الشام بعد انتقاله إلي مصر والعيش فيها مما تتطلب مراجعة بعض آرائه وبما يتفق مع البيئة الجديدة. ليس الغرض من هذا المقال إبداء وجهة نظر مختلفة, بقدر ما هي طرح تساؤل علي علمائنا الأجلاء في قضية المقاصد العليا للإسلام, ومدي ما نتطلبه من مرونة وضرورة مراعاة احتياجات العصر دون التضحية بهذه المقاصد العليا. والله أعلم. لمزيد من مقالات د.حازم الببلاوي