بين الأمل والرجاء عبر المصريون بأشكال متعددة عن حبهم وتقديرهم للرئيس حسني مبارك غداة خضوعه لعملية جراحية في ألمانيا.. منهم من أرسل باقة زهور ومنهم من أرسل كلمات في سطور رسالة حملت بعضا من مشاعرهم, والكل أحاطوه بالدعاء.. ولأن تاريخ مبارك مع المصريين والعرب قصة عريضة وطويلة يصعب حصرها لما بها من أحداث متتالية.. وهي تاريخ عريض من الوطنية الصادقة.. فقد كان موضوع الحلقة الأولي في هذا المكان تحت عنوان مواجهة الأزمات, واليوم أستعرض الخروج من الأزمات.. فكلا التطورين صنعا معا البنية الأساسية, سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية لوضع مصر في مكانها الذي تستحقه بعد عقود من المعاناة والحروب واحتلال الأرض والأخطاء, وتدمير الموارد وإهدار البنية الاقتصادية والبشرية لمصر.. فصناعة مجتمع حديث ومتطور يلبي احتياجات كل أبنائه ليست عملية سهلة, ولا تتحقق بالشعارات أو الأوهام والكلمات الكبيرة فقط, بل يصنعه عرق أمة ومعاناة أهلها, وإصرار قائدها وبطلها علي تغيير الأحوال ووضع الوطن في مسار صحيح نحن فيه الآن. لم تتحقق الحرية الأساسية بقرار.. ولم نستوعب فقط أكبر نمو سكاني في تاريخنا برغم الصعوبات والمشكلات.. ولم نتخلص من السلبيات بسهولة, ولكن تلك هي القصة, علي وعد بأن نكملها معا عملا ومسيرة. حين تولي الرئيس مبارك المسئولية, عقب اغتيال الرئيس الراحل أنور السادات, كانت هناك قضايا ملحة لاتقبل التأجيل فرضت نفسها علي الأجندة السياسية لمصر, ولم يكن تأجيل إحداها اختيارا بحكم تأثيراتها الهائلة علي مجريات الحياة في مصر, وزاد من تعقيدات تلك القضايا تشابكها وارتباط تأثيراتها ببعضها البعض, وكانت مواجهة الإرهاب أولوية قصوي, حيث استطاع مبارك أن يعيد المجتمع المصري سريعا إلي حالة من الاستقرار والأمان في مواجهة الموجة الأولي العاتية من الإرهاب, ثم كانت الأولوية الثانية من القضايا التي فرضتها الأوضاع الاقتصادية المأزومة. لقد وضع مبارك التنمية الاقتصادية علي قمة مشروعه الوطني, وفي فبراير عام1982 دعا عقول مصر وخبراءها إلي مؤتمر اقتصادي يحدد لمصر أولويات عملها واتجاهات خطواتها, وفي هذا المؤتمر ظهرت الحاجة الملحة إلي اتباع استراتيجية تنموية طموح من خلال الخطط الخمسية التي بدأت عام1982, وتكثيف إجراءات التحول نحو اقتصاد السوق, والتحول التدريجي عن التخطيط المركزي, وتقليص دور القطاع العام تدريجيا, وزيادة الاعتماد علي القطاع الخاص, وكانت تلك السياسات بداية لمرحلة جديدة ترجمتها الخطة الخمسية التي نفذت بين عامي1982 و1987, والتي كانت تعد ثانية الخطط الخمسية الثابتة بعد الخطة الخمسية1960 1964. واجه مبارك تحدي التنمية الاقتصادية باقتصاد أنهكته الحروب والأخطاء وتخلف وسائل الإنتاج وضعف الهياكل, إذ لم يكن الإنتاج الصناعي يتجاوز2.7 مليار جنيه.وكان دخل قناة السويس لايتجاوز900 مليون دولار, وتحويلات المصريين عند حدود2.1 مليار, ووقفت إيرادات السياحة عند400 مليون دولار, وصادرات البترول3 مليارات دولار, بينما كانت فاتورة الغذاء الذي نستورده تتجاوز تسعة مليارات دولار سنويا, وكانت المؤشرات الاقتصادية تنذر بكارثة اقتصادية وشيكة. فقد كانت القدرات الاقتصادية تتراجع كثيرا بينما يتزايد عدد السكان سريعا وتزداد معدلات استهلاك الفرد, وفي عام1981 كان متوسط نصيب الفرد في الناتج القومي لايتجاوز535 جنيها( اليوم10.000 جنيه), وكانت موازنة التعليم قبل الجامعي لاتتجاوز388 مليون جنيه( وهي اليوم26 مليار جنيه) وموازنة الجامعات المصرية420 مليون جنيه( اليوم8 مليارات جنيه). ............................................................... لقد تجاوز مبارك حدود الخطر الاقتصادي في سنوات الحكم الأولي قبل أن يحقق للاقتصاد المصري انطلاقته فيما بعد, وكانت مهمة إبعاد شبح الخطر الاقتصادي بالغة الصعوبة في ظل الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي سادت النصف الأول من ثمانينيات القرن الماضي, ولكن مبارك استطاع قيادة شعبه إلي اقتحام تلك المشكلات ليصل بالاقتصاد المصري إلي مرحلة الإصلاح الشامل التي أخذت مصر فيما بعد إلي آفاق اقتصادية أرحب. وفي الوقت الذي كان مبارك يواجه فيه قوي الإرهاب ومصاعب التنمية الاقتصادية, لم تكن أرض مصر المحتلة قد تحررت بعد, وكانت هناك شكوك كثيرة في أن تفي إسرائيل بتعهداتها, وما أكثر المرجفين في مصر آنذاك. ولكن مبارك استطاع أن يمارس ضغوطا هائلة لوضع اتفاقية السلام موضع التنفيذ علي الأرض, وخاضت مصر معه معارك المفاوضات والتحركات الدولية التي حققت لها استعادة كامل ترابها الوطني. ففي21 أبريل عام1982 استعادت مصر شرم الشيخ لتصبح مدينة للسلام, وبعد سبع سنوات وفي15 مارس عام1989 رفع مبارك علم مصر علي طابا بعد معركة طويلة من المفاوضات والتحكيم, وبهذا الحدث عادت شمس الحرية تضيء أرض مصر كلها من جديد, وكان استكمال تحرير التراب المصري اختبارا لإرادة السلام في مصر, وقدرتها علي إدارة صراعاتها بأساليب أخري غير الحروب واستخدام السلاح العسكري, ولم يكن تحرير كامل التراب المصري إلا مقدمة لقيادة مصر جهود السلام في المنطقة, فقد برهنت التجربة المصرية علي أن التفاوض واستلهام أدوات العصر في إدارة الصراع هو الوسيلة الأنجع لإقرار الحقوق وتسوية النزاعات مهما طالت, فمصر هي الدولة الوحيدة في المنطقة التي خاضت معارك السلاح ومفاوضات السلام في تسوية المنازعات, وقدر لها أن تتحمل الدفع بالأطراف المختلفة نحو مائدة التفاوض, بدلا من ساحات المعارك, وقد حققت مصر للأطراف المختلفة الكثير من المزايا بفضل هذه السياسة, لولا ذلك التداعي السريع للمواجهات التي تغذيها قوي لاتري في السلام مصالحها أو طموحاتها, ومع ذلك فإن الرئيس مبارك مازال مصرا علي أن المتقاتلين مهما طال القتال بينهم لن يحققوا نفعا إلا علي موائد المفاوضات. وقد اكتسب مبارك عن جدارة احترام العالم بصبره علي التفاوض, وإصراره علي أن السلام يمكن أن يحقق أكثر كثيرا مما يحققه القتال في ميادين المعارك, وكان إيمانه بالسلام والتفاوض ضمانة تحول دون استمرار مسلسل الدماء في المنطقة, والخروج من معركة لأخري دون أن يتحقق شيء علي الأرض, وكان إيمانه بالسلام منذ البداية صمام أمان ضد المغامرين وتجار الحروب, وتحمل في ذلك الكثير, وخلال سنوات الحكم معه تعرضت مصر للكثير من الأزمات التي كان يمكن معها أن نستعيد عبث الحروب واستنزاف الدماء والجهود. ولكننا عرفنا معه كيف نسعي وننجز ونحقق الأهداف دون كلفة الدماء والدمار. وإذا كان قدر مصر الثقافي والجغرافي هو أن تعيش متفاعلة مع محيطها الذي تولت قيادته فترات طويلة من الزمن, فقد جاء مبارك إلي الحكم وعلاقات الجوار العربي تعاني الكثير من التوترات الذي وصلت إلي حد القطيعة ونقل مقر جامعة الدول العربية من القاهرة, وقضية مصر والعرب لاتوضع في إطار من يفيد أكثر من الآخر, ولكن إطارها الصحيح هو أن كلا الطرفين لايمكنه العمل سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا دون الآخر, فلقد عمل مبارك من أجل إعادة العلاقات العربية مع مصر إلي طبيعتها التي فرضها التاريخ وقدرتها الجغرافيا, ولم تكن المهمة سهلة, فأسباب القطيعة قائمة في استمرار معاهدة السلام في وقت كانت فيه مصر, تفاوض من أجل أرضها وتحترم تعهداتها الدولية, وكان مبارك يعي جيدا أن كثيرين من العرب واقعون تحت تأثير قوي راديكالية لاتري في انتهاء الصراع مصلحة لها. واستطاع تدريجيا تفكيك تلك الجبهة التي تشكلت ضد مصر وفتح الباب أمام قوي الاعتدال لأن تعلن عن مواقفها وتعيد النظر في علاقاتها الرسمية بمصر, وكانت عمان الدولة الوحيدة التي لم تقطع علاقاتها بمصر, وكانت أولي زيارات الرئيس العربية إلي عمان في فبراير عام1982, حيث بدت الحاجة ملحة لمصر في مواجهة التدخلات الأجنبية في المنطقة. وفي مايو من العام نفسه كان مبارك في الخرطوم يبحث القضايا العربية والإفريقية, وفي شهر يونيو كان مبارك في الرياض لتقديم العزاء في وفاة الملك خالد, ومحادثات مع العاهل السعودي الراحل الملك فهد بن عبد العزيز, ثم توالت لقاءات الرئيس مع القادة العرب, مما مهد الطريق لاستعادة العلاقات مع المحيط العربي, ففي مايو من عام1989 عادت مصر رسميا إلي عضوية الجامعة العربية باعتراف عربي كامل بأن مصر التزمت بالأمن القومي العربي وخدمة قضايا الأمة. واستعاد مبارك العلاقات المقطوعة مع كل دول العالم والاتحاد السوفيتي, وأكدت زياراته المتكررة لأوروبا أهمية الدور الأوروبي في دعم قدرات الاقتصاد المصري ومساعيه من أجل السلام, وفي يوليو من العام نفسه كان زعماء52 دولة إفريقية ينتخبون مبارك رئيسا لمنظمة الوحدة الإفريقية, وهكذا استعاد مبارك لمصر مكانتها في المحيطين العربي والإفريقي بعد فتور استمر عقدا من الزمن. ............................................................... الإنجازات التي حققها مبارك في معاركه الأربع التي واجهته عشية توليه الحكم كانت في مجملها تمثل أساسا وتهيئة لنجاحات وإنجازات تحققت في سنوات لاحقة. والحقيقة هي أن الخروج من الأزمات الأربع كان اللبنة الأولي في تحقيق ما نراه اليوم من انحسار لموجات الإرهاب تحقق معه الأمن وتوفير مناخ جاذب للسياحة والاستثمار, وما تحقق من تطورات هائلة في هياكل الاقتصاد المصري وقدراته علي النمو ومواجهة الأزمات, وإسقاط الديون في معركة اقتصادية وسياسية تاريخية يجب أن تعرفها الأجيال الحالية, وتحرير كامل التراب الوطني, وطرح السلام خيارا استراتيجيا لإدارة الصراع في المنطقة حتي أصبح خيار الأغلبية من الحكومات والشعوب العربية, واستعادة مصر لمكانتها العربية والإقليمية والدولية وفق معايير جديدة تتفق والتغيرات التي طرأت علي النظام الإقليمي والدولي. كان الخروج من تلك الأزمات الأربع معركة بكل المعايير, تميزت فيها إدارة مبارك بالصدق والمصارحة, والتوجه المباشر لجوهر المشكلات باعتبار ذلك أقصر الطرق, ولقد أثبتت الأيام أن صدقه وصراحته وحزمه في إدارة تلك الأزمات قد جنب مصر ومحيطها العربي ويلات المغامرات واللجوء إلي المسكنات وضياع الفرص. بدا المسرح السياسي في مصر مهيأ بعد الخروج من الأزمات الأربع لرؤي جديدة تمكن النظام السياسي من التطور, فلم يكن الحديث عن التطور الديمقراطي وتحديث البنية التشريعية ممكنا قبل انفراج هذه الأزمات. والحقيقة التي لابد من تأكيدها هي أن الإصلاحات السياسية التي أقدم عليها الرئيس مبارك لم تكن بأي حال استجابة لضغوط خارجية بدت متزامنة مع بدء عمليات الإصلاح السياسي, ولكنها كانت تعبيرا عن ظروف سياسية واقتصادية داخلية, باتت ملائمة تماما لاتخاذ خطوات علي طريق الإصلاح السياسي, فقد دافعت مصر طوال تلك السنوات عن برامجها الإصلاحية ووقفت بحزم أمام الضغوط الخارجية التي أرادت تصدير نموذج ديمقراطي غربي الملامح وتسويقه في المنطقة العربية بأسرها, واستطاعت مصر أن تحدد خطواتها الإصلاحية في المجال السياسي وفق رؤيتها ومصالح شعبها. ولم يكن ما تحقق علي أرض مصر من إصلاحات سياسية مهمة سهلة, فالحفاظ علي استقرار المجتمع وصيانة مصالحه مع إحداث تطور سياسي حقيقي وتحول ملموس نحو الديمقراطية كان معادلة صعبة استوجبت الكثير من الجهد والعمل الدءوب, وهو ما سوف نتحدث عنه في الحلقة المقبلة. [email protected] المزيد من مقالات أسامه سرايا