يذكر جون جاك روسو في مطلع كتابه عن العقد الاجتماعي أن الإنسان كل إنسان ولد حرا إلا أنه في كل مكان نراه مقيدا نتوقعه سيدا علي الكل إلا إننا نراه مازال عبدا أكثر من الجميع وكيف حدث ذلك التغيير وما الذي يجعل هذا التناقض مشروعا ولنبدأ بالمجتمعات الأولي. أقدم هذه المجتمعات والمجتمع الوحيد الذي يتصف بأنه طبيعي هي الأسرة وفيه يرتبط الأطفال بأبيهم ماداموا في حاجة إليه لاستمرار الحياة وبمجرد ماتنتهي هذه الحاجة فإن الرابطة الطبيعية تنتهي إذ يتحرر الأطفال من طاعتهم التي كانوا يدينون بها لأبيهم كما يتحرر الأب من مسئولية الرعاية التي كان مدينا بها لاولاده وتتحول العلاقة الندية والاستقلالية وأن استمرت رابطة الابناء بالآباء بعد استقلاليتهم فهي ليست علاقة طبيعية وإنما علاقة طوعية والعائلة ذاتها يجمعها القناعة أكثر من الاحتياج. وتأتي هذه الحرية من طبيعة الإنسان فالقانون الأول هو قانون حفظ النوع, ومع نضوج الفرد يتجه إلي الحكم الفردي واختيار أفضل السبل للحفاظ علي نفسه وبالتالي يصبح سيد نفسه. لذلك نقول إن الأسرة هي النموذج الأول للمجتمع السياسي حيث الحكم للأب والشعب هم الأبناء والجميع ولدوا أحرارا ومتساويين والتنازل عن الحرية إنما يأتي للمصلحة كما الطفل لأبيه والفارق الوحيد هو أن الأسرة يحكمها حب الأب لأطفاله يقابله الطاعة التي يأخذها منهم أما في الدولة فإن صيغة الأوامر تحتل مكان الحب الذي لايستطيع الرئيس أن يعطيه الناس الذين هم تحت حكمه ولكن تنحسر العلاقة في المنفعة المتبادلة, الحاكم يوفر الحماية والحرية والمواطن يقدم خضوعا للقانون والدفاع عن الوطن والولاء له. إلا أن تشابك المصالح وازدياد الأعباء من الجانبين أدي إلي تعدد شركاء العقد فلم تعد العلاقة محصورة في المواطن والسلطة بل تضيف للسلطة الحاكمة مؤسسات المجتمع المدني والقطاع الخاص وتعرف هذه الشراكة بالعقد الاجتماعي الجديد الذي ينظم المصالح المتنافسة والمتداخلة وأصبح عبء الحفاظ علي هذه العلاقات هو مسئولية كل الأطراف في هذا العقد الاجتماعي الجديد ولايمكن التخلص من المسئولية أو إلقائها علي طرف من الأطراف الأربعة في العقد: الحكومة ومؤسسات المجتمع المدني والقطاع الخاص والمواطن, فإذا تحقق التوازن في المصالح وحرص كل طرف من أطرافه علي أداء ماعليه مع العدالة المتوازنة بين المسئولية والحق في مناخ من الحرية والكرامة التي يجب العمل علي تحقيقها للمواطنين والتي لاتقل في أهميتها عن الهواء والماء الهواء النقي والماء الصالح للشرب: هنا يتحقق العقد الاجتماعي وتتلخص هذه الأساسيات في: 1 ضمان حق التعليم الصحي والرعاية اللائقة والتنشئة الاجتماعية الكريمة لكل المواطنين. 2 تحقيق الدمج الاجتماعي بين كل فئات الشعب دون النظر إلي الاختلافات الدينية أو الطائفية أو الجنسية وهذا الدمج لايمكن تحقيقه إلا في مناخ من العدالة والمساواة. 3 توفير حاجات مختلف الفئات بتنوع السلع التي تناسب كل الطبقات, ولعل ماحدث في أزمة أنبوبة البوتاجاز الدليل الكافي لاختلال العلاقة التعاقدية حيث اشترك في هذه الأزمة العديد من الأطراف مثل المنتج والموزع والمستفيد وهم مواطنون منهم من عاني الأزمة ومنهم من استفاد منها. 4 تعزيز قدرات المواطن لأن هذه القدرات تمثل رصيدا اجتماعيا يدفع عجلة التنمية والاستقرار. 5 ضمان تحقيق المساءلة القانونية العادلة للطرف المقصر في أداء واجبه سواء كان الدولة أو المواطن أو المجتمع المدني أو القطاع الخاص. وبهذه الضمانات يمكن تصحيح العلاقة وتصحيح احتياجات كل الأطراف وتصبح للحياة متعتها إذ لاطعم لحياة مهما طالت الأعمار فيها وتناقصت متعتها ولامعني للتقدم حتي ولو وصلنا القمر البعيد بينما تباعدنا عن الجار القريب. ولامعني لاختراقنا الفضاء بينما نعجز عن تواصلنا معا ولامعني لاختراعنا للذرة بينما نفجر أحقادا مدمرة فقد ترتفع دخولنا وتتضخم أرصدتنا بينما تتدهور الأخلاق وتفسد الذمم ويتضاءل الحق ولامعني لإقامة الجسور وبناء الطرق وعبور القارات في وقت فقدنا فيه العلاقات بين إخوة يعيشون علي أرض واحدة فإن دل ذلك علي شيء فهو حالة من الانفصام ليتنا معا نحقق بنود العقد الاجتماعي والذي بدونه نعيش الأوهام ولاغالب ومغلوب فالكل مهزوم ومهموم, والحل هو تعليم يؤدي إلي تنشئة إنسان كامل ومواطن كامل عاطفة وعقلا حتي يمارس دوره من خلال شركائه في المجتمع دون النظر إلي تنوع الثقافات وتعدد الانتماءات الدينية والطائفية والسياسية في مجتمع تحكمه النظم السياسية التي تحقق السيادة غير القابلة للتنازل أو للتجزئة بقيادة صالحة فانحراف المسئولين والميل إلي الفساد يشكل المرض الذي يؤدي حتما إلي موت الجذع السياسي السياسي, وعلي السلطة الأعلي أن تصون نفسها بالحرص الشديد علي إهمال سلطتها عند التمثيل أو التفويض أو الوكالة.