حياة المفكرين والأدباء تفيض بالرؤي, وتلهم الإنسان بغد أكثر إشراقا وجمالا. وهذه هي الرسالة النبيلة للأدب والفكر, وهي الهدف الأسمي للسياسة, ذلك أن الغاية الكبري للسياسة أن تشق دروبا ومسالك يمضي عليها الإنسان نحو تحقيق أسباب سعادته.. بما يوفره الحكم الرشيد من ديمقراطية وعدالة اجتماعية. وأنبل المفكرين والكتاب أولئك الذين يعملون في دأب من أجل استشراق آفاق المستقبل, ويكرسون حياتهم لتبصير الإنسان بقضاياه, ويبذلون قصاري فكرهم وجهدهم لإماطة الأذي عن الطريق. ولعل الكاتب الصحفي والروائي البريطاني ه.ج. ويلز يتبوأ مكانة مرموقة بين هؤلاء المفكرين والأدباء النبلاء, فقد ظل طوال أكثر من نصف قرن يضئ شعلة التنوير الثقافي, ونشر في خلالها أكثر من مائة كتاب, وانخرط انخراطا عظيما في شئون العالم, وليس أدل علي ذلك من أنه التقي مع كل من الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت, والزعيم السوفيتي جوزيف ستالين, في محاولة لتقريب وجهتي نظرهما تجاه القضايا والمشكلات الدولية. وقد اضطلع بهذه المحاولة في منتصف الثلاثينيات من القرن العشرين. وكانت شهرة هذا الكاتب الموهوب قد دوت في السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر, وسطعت أفكاره المستنيرة في خلال النصف الأول من القرن العشرين, وهو قرن اضطربت في خلاله الدنيا اضطرابا شديدا, فقد كابد أهوال حربين عالميتين, وعاني من جراء أزمة اقتصادية خانقة, هي أزمة الركود العظيم. ووسط هذه الأجواء من الأزمات الكونية الحادة, كان ه. ج. ويلز يسعي عبر توهج خياله وعمق بصيرته الي المساهمة الخلاقة في استشراف آفاق جديدة للانسان. والجدير بالتأمل أن ه.ج.ويلز كان إبان طفولته وصباه يطارد الفقر ويطارده, فقد كان أبوه بقالا بسيطا, أما أمه فكانت خادمة, ومن ثم عاني الفتي من شظف العيش, لكنه كان طالبا ذكيا ومجتهدا, وتمكن من الفوز بمنحة دراسية مكنته من الالتحاق بالجامعة, ودراسة علم الاحياء. وتلك كانت نقطة الانطلاق الأولي في حياته, فقد أقبل علي دراسته العلمية بشغف عظيم, وعندما أنهي دراسته الجامعية عام1890 تعثر في الحصول علي وظيفة مناسبة. {{{ ولم يجد مخرجا من خيبة أمله, سوي بالتحليق في فضاءات الخيال, وأبدع روايته الأولي آلة الزمن, التي نشرها عام1895, وكانت فتحا عظيما, فقد ذاع صيته الأدبي, ونصبه النقاد خليفة للروائي الفرنسي الشهير جوول فيرن(1872 1904) رائد روايات الخيال العلمي, ومن أشهرها.. حول العالم في ثمانين يوما, ورحلة الي مركز الأرض, ومن الأرض الي القمر. وهنا يقلب الكاتب ديفيد لودج صفحات رواية آلة الزمن, ويبدأ في كتابة سيرة ذاتية عن ه.ج.ويلز تحت عنوان مثير رجل المواهب, ونشر الكتاب أخيرا, ويشير فيه الي أن ويلز حظي باقتدار بلقب الرجل الذي اخترع الغد. وقد نشر ويلز مجموعة متميزة من روايات الخيال العلمي تمكن خلالها من توقع حدوث الغارات الجوية, وانتاج القنبلة الذرية, بل انه أشار الي إمكان اختراع شبكة الانترنت, وهو ما يفطن إليه من يقرأ رواياته: آلة الزمن, وجزيرة الدكتور مورو, والرجال والقمر, وحرب العوالم. وكان ويلز يرتكز في مسيرته الأدبية والسياسية الي دعامتين أساسيتين هما العلم والتعليم, فهما السبيل الي بناء المستقبل المنشود, والاقتراب من مشارف أحلام الفردوس الأرضي, ويبدو هذا بوضوح في روايته يوتوبيا حديثة التي نشرها عام.1905 ولو تصورنا أن موهبة ه.ج.ويلز اقتصرت علي ابداع روايات الخيال العلمي, فإن ذلك ربما كان يكفي لدخوله مملكة الأدب السحرية من أوسع أبوابها. ولكن ويلز هبط منذ مستهل القرن العشرين من مدارات الخيال العلمي الي أرض الواقع, وصال وجال في دنيا الفكر السياسي, فقد انضم عام1903 الي عضوية الجمعية الفابية البريطانية, التي كانت تدعو الي الاشتراكية التي تتسم بالتدرج وتجنح الي الاعتدال. ومعني هذا التحول الفكري, ان اهتماماته الثقافية تركز علي كتابة المقالات والنشرات السياسية, وحتي تتضح دلالات هذا التحول, قد يمكن الإشارة الي أن الجمعية الفابية قد أسهم في تأسيسها عام1883 الكاتب البريطاني الشهير برنارد شو, وهو من تمكن عام1889 من اقناع المفكر سيدني ويب وزوجته بالانضمام إليها, ومن ثم; قامت الجمعية الفابية بدور فعال ومؤثر في نشر الأفكار الاشتراكية المعتدلة. وكان أبرز تأثير لها أن حزب العمال البريطاني خرج من رحمها الفكري والسياسي. غير أن ويلز لم يستمر طويلا في رحاب الجمعية الفابية, ويعزي ذلك الي أنه كان يصر علي أن تدعو الي قضية تحرير المرأة, غير أن برنارد شو كان يري أن تقتصر علي الدعوة الي الاشتراكية. {{{ وما إن اندلعت الحرب العالمية الأولي عام1914, حتي كدرت وقائعها صفو حياته, وروعه مستقبل البشرية الذي تحدق به المخاطر, ومن ثم اعتبر التعليم والعلم طوق النجاة للأجيال القادمة, واهتم بدراسة تاريخ العالم, وأصدر كتابه المهم معالم التاريخ عام1920, وعكف طويلا علي تأليف كتاب العمل والثروة وسعادة البشر, ونشره عام.1932 وكانت نهاية عقد الثلاثينيات صعبة وعسيرة, بالنسبة له.. فقد بدأ استبشاره بالغد يتلبد بالغيوم وخيمت عليه سحابة كثيفة من القلق والخوف علي مستقبل البشرية والحضارة. وعصفت به المخاوف, عندما اشتعلت الحرب العالمية الثانية التي فجرها النازي الألماني أدولف هتلر, وبرغم أن ويلز شهد اندحار النازية والفاشية في أوروبا, وأتاه نبأ هزيمة ألمانيا النازية, وانتحار هتلر في ابريل1945, إلا أنه لم يبرأ من صدمة الحرب وفظائعها وجرائمها. ومات حزينا عام.1946 لكن أسطورة روايات الخيال العلمي التي أبدعها لم تمت, وانما ازدهرت, وتألقت. وكان آخر ما كتب قبل أن يلفظ انفاسه الأخيرة مقالا صحفيا يحذر فيه من كارثة انتاج القنبلة الذرية, وكان قد فطن الي آثارها المدمرة عندما قصفت أمريكا مدينتي نجازاكي وهيروشيما في اليابان بقنبلتين ذريتين في نهاية الحرب العالمية الثانية. إن ه.ج.ويلز ظل حتي الساعات الأخيرة من حياته مهموما بمستقبل الإنسان وسعادته. وهذا هو الكاتب الحقيقي, وتلك هي رسالته النبيلة. المزيد من أعمدة محمد عيسي الشرقاوي