الوطن والمرأة وجهان لعملة واحدة, كلاهما يتحقق وجوده وتتمثل معانيه الرفيعة من صفات الآخر, الوطن هو المكان الذي تولد فيه الهوية الوطنية فهو الوطن الأم, والمرأة هي الوطن لكل عائلتها, كبيرا وصغيرا, قريبا وبعيدا, فهي الملجأ الآمن الذي يوفر العواطف النبيلة من الحب والاطمئنان والدفء, فهل تكون المرأة امرأة إلا إن كانت بئرا للحنان, والمجتمعات التي يخبو فيها تأثير المرأة الفعال, مجتمعات فاسدة, تافهة, وبالطبع متخلفة, فطبيعة المرأة الصبور الطيبة هي المرشد الاجتماعي لجوهر الأمور, وأبعادها الخفية عن الجهلاء المتسرعين الأدعياء. فمجتمع تنزوي فيه المرأة ويخفت بريقها الحر, محكوم عليه بالفشل والانغلاق, ويقوده التعصب والفرز الحاد للخطأ والصواب, البعيد تماما عن طبيعة النفس البشرية ومعادلاتها الغامضة, ويختزل الحياة الرحبة في قواعد الجهل الجاهزة! الحضارة المصرية القديمة ربطت مصير الوطن ب إيزيس المرأة الوفية القوية, التي أعادت للوطن الحياة الكريمة في الميثولوجيا الشهيرة, التي تروي قصة أول أسرة عرفتها البشرية, فعندما قتل الإله الشرير ست شقيقه الإله أوزوريس إله الخير, طمعا في زوجته والملك, ورمي جثته في النيل أصرت إيزيس علي البحث عن جثته, حتي تستطيع روحه أن تعود لجسده, لينتقل إلي العالم الآخر, وعندما نجحت في العثور علي جسده في لبنان, استطاع إله الشر ست أن يسرقها ويقطع الجسد إلي (14) جزءا, ويوزعها علي أقاليم مصر, إلا أن إيزيس لم تستسلم لهذا القدر المشئوم واستطاعت أن تجمع أشلاءه وتعيد لها الآلهة الحياة, وتنجب منه الإله حورس وأصبح الصغير رجلا قادرا علي مصارعة الشر, وإعادة ملك أبيه, ومثلت هذه الأسطورة قيم الأسرة في التضحية والوفاء والاطمئنان, وهي القيم التي نشأ منها الانتماء للأهل والوطن, قوة الوطن تقوم علي قوة المرأة الأخلاقية التي تستطيع خلق التوازن بين قوتي العقل والعاطفة. هذه العلاقة القوية بين المرأة والوطن طرأت علي ذهني من جراء حالة الانتخاب في المناخ العام الذي تعيشه بلادنا, من فترة وهي ترسم خريطة المستقبل, ويحرض الجميع علي المشاركة في رسم هذه الخريطة, بأدوار وأساليب شتي, لكنها تدور كلها حول فكرة (الانتخاب) أي الاختيار ما بين الأفكار والقيم والأشخاص القادرين علي قيادة الوطن في هذه الظروف الكارثية من الانفجار الاجتماعي الانفعالي, فالجميع يعرض أفكاره وتوجهاته وإمكاناته في وقت ملتهب, قد يؤدي سوء الاختيار إلي سوء العاقبة, فوجدت أن الوطن قد يستفيد من أهم تجارب المرأة الحياتية, عند انتخاب زوج لها من الراغبين في الاقتران بها, فعبر قرون طويلة خاضت المرأة تجارب طويلة في فن اختيار شريك حياتها, خاصة أن نظرة المرأة تمتد طول العمر للرباط المقدس فتختار من يصلح لعلاقة دائمة وإن قامت علي رغبة زائلة. إيزيس جميلة الجميلات هي مصر الوطن, جميلة الجميلات أيضا, فالمرأة هي المعادل الموضوعي للوطن, فكلاهما يبحث عن رمز الرجولة, في (أوزوريس) إله الخير, وتلد رمزا للبطولة في (حورس) المنتمي لوطنه وأهله, وأعاد لأبيه عينه التي ضاعت, ونفخت فيها الآلهة لتعيد لها نورها, ومازال المصريون ينفخون كل عين متعبة حتي الآن, فكم من العيون تحتاج إلي هذه النفخة الرمزية؟ بالرغم من الحكمة التاريخية في عقائدهم الشعبية, بأن الدنيا ظالمة لا تعطي لكل ذي حق حقه, فليس كل من نفخ طبخ, ولا كل من طبخ نفخ, ولكن علينا أن نسعي وليس علينا إدراك النجاح, وهو ما يجعل علينا مسئولية في الانتخاب المدروس القائم علي الحقائق والحلول العملية والعلمية والوقائع الحضارية الجديدة, لا الكلام المعسول الذي يتلاعب بالعواطف الجريحة, التي تتوق لمخلص ينهي متاعبها ولا تحصد من الجري وراءه إلا الأوهام, ومزيدا من الإحباطات, وشرب المزيد من العسل المر. تجربة انتخاب المرأة لشريك حياتها خير دليل علي ذلك, فالتي تجري وراء العواطف والنزوات لا تحصد إلي البؤس الدائم, أو الطلاق لو كانت حسنة الحظ, فهما أمران أحلاهما مر, صرح الزواج كصرح الوطن, يحتاج إلي أسس قوية لا عواطف وهمية, تقوم علي خلق توقعات عالية وأحلام وردية من سعادة تتدفق بغير حساب من المحبوب الخرافي, القادر علي الإتيان بالمعجزات مادام أعلن عن حبه! وعندما تذهب السكرة وتأتي الفكرة بمتطلبات الحياة, والاختلافات الطبيعية بين البشر تبدأ الاتهامات ورفض الواقع, فهي لا ترضي بأن يكون حبيبها مجرد رجل, له طاقة ومزاج متقلب وأمكانات محدودة, وهو أيضا لا يرضي بها كامرأة كبقية النساء, ليست دائما في أوج تألقها النفسي والبدني والجمالي, ومقارنتها بنجمات السينما عبء آخر, فأولئك لسن إلا نساء عاديات ولكن الجيش الذي وراءهن من خبراء التجميل وأطبائه هم سر التألق والبريق الوهمي الذي يسلب عقولهم, ويدخلوا في نفق الوهم, كمن اشتري ورقة ياناصيب خاسرة! الحماس المسرف يلغي القدرة الصائبة علي تقدير الأمور, وعلي المرأة ألا تغالي في حماسها عند الاختيار حتي تضمن الفوز بأفضله لأنها الأكثر حرصا علي رابطة الزواج وكيان الأسرة, فذكاء المرأة هو من حول الغريزة البسيطة, إلي مؤسسة يقوم عليها المجتمع والوطن, وهي من جعلتها رابطة مقدسة تستمر طول العمر وتزداد قوة مع الزمن, فيستفيد من نجاحها الأطفال والشيوخ, الرجل والمرأة والوطن كله, فمؤسسة الزواج تحمي الجميع من نزوات المغامرين المتطرفين. وأعتقد أن أهم خبرة في عقل المرأة عبر التاريخ لتجعل هذه المؤسسة تتحدي الزمن والشيخوخة والملل, هي البعد تماما عن الرجل الغيني عند الاختيار. الرجل الغيني نسبة إلي حرف (الغين) لا دولة غينيا الإفريقية مثلنا, فحرف (الغين) بالصدفة تبدأ به صفة (الغبي) وهي تجر في أذيالها معاني كثيرة تبدأ بالغين أيضا, كغليظ وغيور وغدار وغوغائي وغلث وغريب الأطوار وغياظ, وغامط للحق, وغني, وغرائزي وكفي,, فهي صفات تهدم أكبر وأقوي مؤسسة, ووطن. الغليظ عديم الحساسية يستخف بكل الآلام مادامت لا تصيبه هو, وتنزل علي الآخرين, والغلظة تزداد مع الزمن وتتكلس, مادامت لم تتهذب بأي قيمة للحب والجمال والعواطف النبيلة التي ترقي الأحاسيس وتجعل الإنسان يقترب من النورانية الإلهية, بينما الغليظ مغلق علي ذاته, لا يحس إلا بنفسه, مهما أوتي من العلم والفصاحة وتلك للتجارة والمكسب المادي الزائل التافه, فهو كالحمار يحمل أسفارا, ألم يستدع شيوخا في أرذل العمر الاستعمار ليدك بلادهم بالقنابل والصواريخ؟ فكيف كانت أفكارهم وهم في سن الشباب والتهور؟ صحيح.. ليس كل من لف العمامة يزينها. الغيور إنسان خطير, فالغيرة لاشك من علامات الحب فقال الشاعر المحب: أغار عليك من غيري ومني, ومنك ومن مكانك والزمان, لو أنني خبأتك في عيوني إلي يوم القيامة ما كفاني, فقد تفرح المرأة بذلك أول مرة ويرضي غرورها ولكنها تدفع الثمن غاليا بعد ذلك, من وأد طموحها وإهدار إمكاناتها وقد تتحول الغيرة إلي شك مهين, يهدر كرامتها أيضا, أما باقي الصفات فتحتاج إلي حديث آخر. المزيد من مقالات وفاء محمود