السلفية في ذاتها اتجاه عقلي وجداني, حين نتأمل حقيقته نجده منطبقا علي السواد الأعظم من المسلمين الذين يطلق عليهم أهل السنة والجماعة, وتكاد السنة والسلفية أن تكونا لفظتين مترادفتين, إذ النبي صلي الله عليه وسلم هو رأس السلف الصالح. فالسلفية تعني الاقتداء به وبالأئمة الذين سلف زمانهم وسبقت أجيالهم في القرون الثلاثة الأولي من بعثته عليه الصلاة والسلام. بل إننا إذا فهمنا السلفية بنظرة واسعة الأفق لا نري تعارضا بينها وبين الصوفية علي الرغم من النزاع المفتعل بين الفريقين. وحين أخذ السلفيون في الظهور بين جماعات الشعب المصري خلال عقود النصف الأول من القرن الماضي كانت دعوتهم سلمية هادئة, وظل قادتهم حريصين علي تجنب الدخول في صراعات سياسية أو الانجراف إلي نزاعات حزبية. صحيح أن دعوتهم كانت امتدادا لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب النجدي التي زامنت اعتلاء محمد علي ولاية مصر, وأن هذا الوالي قام بتحريض من السلطان العثماني بإرسال ثلاث بعثات عسكرية نجحت آخرها في وأد الدعوة والتغلب علي الأسرة السعودية التي حالفت ابن عبد الوهاب, وتبنت التمكين لإصلاحاته بقوة السيف والجهاد, وقد نجحت هذه الأسرة بعد محاولتين تاريخيتين أخريين في إقامة دولتها الثالثة القائمة حتي الآن بقيادة الملك عبد العزيز آل سعود. لكن الدعوة حين أخذت تصل إلي مصر جاءتها خالية من كل صور العنف التي لحقت بها سابقا, وروضت ترويضا كبيرا واستأنست لتلائم المزاج المصري, وربما رأينا إرهاصات سابقة لها في بعض آراء الشيخ محمد عبده, العقلاني الاتجاه, الصوفي النشأة, وقد قويت هذه الإرهاصات في كتابات تلميذه السيد محمد رشيد رضا وفي نشاط الشيخ محمد منير الدمشقي, ثم فيما كتبه الأستاذ أحمد أمين في كتابه: زعماء الإصلاح في العصر الحديث وقد أنزل ابن عبد الوهاب في طليعة هؤلاء الزعماء المصلحين وكتب غير أحمد أمين من الكتاب والمفكرين وكذلك بعض مشايخ الأزهر ما يدل علي تأييدهم أو تسامحهم مع هذه الدعوة. أما تكوين أول جماعة سلفية فكان علي يد الشيخ محمد حامد الفقي وهو عالم مصري أزهري كان إماما في مساجد الأوقاف يتمتع ببلاغة فائقة, وذكاء وقاد وشخصية مؤثرة, وهمة عالية, فأنشأ جماعة أنصار السنة المحمدية سنة1926 وتزايد أتباعه من المتعلمين والبسطاء, وحرص هذا الشيخ علي أن يكون مسالما للسلطة سواء في العهد الملكي أم العهد الجمهوري, وكان نقده للساسة إذا اضطر إليه يحمل كثيرا من مشاعر العطف والود, علي الرغم من شدته في نقد الفرق الصوفية والجماعات الدينية الأخري التي تخالفه الرأي. أما نقده الأشد فكان منصبا علي جماعة الإخوان المسلمين, وعلي مؤسسها الشيخ حسن البنا, إذ كان يري أن البنا قد ركب موجة الإصلاح السلفية أو حاكاها في بعض جوانبها ليحولها عن مسارها الصحيح ويطوع هذا الإصلاح لطموحه الشخصي. ويعني علماء السلفية بالتمييز بين منهجهم ومنهج جماعة الإخوان المسلمين: فينقدون رسالة التعليم التي وضعها البنا لجماعته ويرون أن المبادئ العشرين تحمل كلمات مجملة غامضة يدخل فيها ما هو من الإسلام وما ليس منه, ولا يفهم منها تحديد للمقصود كالذي يفهم من تعريف النبي صلوات الله عليه للإسلام في حديث جبريل المعروف, ويرون أن تركيز الإخوان علي مبدأ الحاكمية جعل دعوتهم أشبه بدعوة سياسية منها بدعوة دينية فهي تطلب الحكم لا الإصلاح. أما دعوة ابن عبد الوهاب السلفية فتهدف إلي التأسيس من أسفل عن طريق إصلاح العقيدة والتركيز علي توحيد الألوهية شأن دعوة الإسلام الأولي في المرحلة المكية. ومن البين أن دعوة الإخوان تقبل أن تضم في أكناف الجماعة أشتاتا من الناس قد تباينت اتجاهاتهم بحجة الأخوة الشاملة التي يدل عليها اسم الجماعة فما يفعلونه يجمع بين اللملمة من ناحية والاستئثار من ناحية أخري, فالأصل أن المسلمين جميعا إخوان بعضهم لبعض وليس من حق جماعة أن تقتطع هذه الأخوة الشاملة لتخص بها القطاع الذي انضم إليها. أما السلفيون فيعتمدون علي الإستراتيجية طويلة النفس, ويؤمنون بالنمو البطيء, ويوازن حكماؤهم بين شجرة الزيتون التي تنمو بطيئا, وتعمر طويلا, وتثمر كثيرا, وبين لهيب النار الذي ينتشر في الهشيم سريعا, وينطفئ سريعا أيضا, ولذلك نراهم لا يبالون بتكثير الجمع وزيادة سواد الجماهير شأن الأحزاب السياسية, وإنما يركزون علي الكيف وعلي إصلاح الجوهر بإقامة التوحيد الصحيح- حسب قولهم-, وهم لا يتعجلون إلي تطبيق الشريعة فتثور الجماهير رافضة, وإنما يريدون أن يدوم هذا التطبيق إذا حدث, فلابد من الاستجابة الشعبية الكاملة وإقناع الجماهير, وهذا سبيله الدعوة لا السلطة. والأسئلة التي تفرض نفسها الآن: لماذا هرع أبناء هذا الجيل من السلفيين الجدد وراء غنائم السلطة ونافسوا عليها؟ لماذا نسوا أو تناسوا أصل الدعوة السلفية وتركوا شجرة الزيتون التي غرسها شيوخهم قبل تمام نموها؟ ألا يرون أنهم تعجلوا الفرحة بما سموه غزوة الصناديق؟ ألم يروا أن استهواء شيطان السلطة قد أوقعهم في شراكه فتشعبت بهم السبل وصارت سلفيتهم عدة سلفيات؟ ألم يتعلموا أن السياسة لا موضع فيها للرحمة ولا لستر العيوب؟ فماذا هم صانعون وفي كل يوم تطالعنا الأخبار بنبأ من يكذب ومن يتبع شهواته ومن يثير الشغب ويسفك الدماء ومن يستخف عقول العوام ويلعب بمشاعرهم, ويدفعهم إلي التعدي علي الشرعية وتحدي القانون فيحاصرون المحاكم ومؤسسات الإعلام ودور الصحف ليكمموا الأفواه ويقصفوا الأقلام؟. أليس من حق الناس أن يتساءلوا: أهكذا كان السلف الصالح؟ أهذه أخلاقهم؟ أهذه الشخصيات التي تؤذي المجتمع اليوم وتؤذي أنفسها هي النتاج المنتظر من عقيدة التوحيد السلفية؟. لمزيد من مقالات د. محمد فايد هيكل