في مذكرات وزير الخارجية الأسبق الدكتور مراد غالب قصة جديرة بالتأمل, احداث القصة تعود إلي عام1972 م عندما قدمت الحكومة الهندية لمصر عرضا سخيا من خلال الدكتور غالب تطلب فيه منها الاعتراف بدولة بنجلاديش التي كانت قد حصلت علي استقلالها توا, في مقابل ان تفتح الهند للجانب المصري مراكز ابحاثها في مجالات الطبيعة النووية, والابحاث الالكترونية, والابحاث الصاروخية والتوجيه. اغتبط غالب بهذا الاقتراح, وذهب ليبشر به الرئيس السادات, باسطا امامه آفاق العرض ومزاياه, إلا ان الأخير استهجن الاقتراح قائلا: انت عايزني احط ايدي في ايد جولدا مائير يقصد انديرا غاندي واستخدام السادات لذلك التشبيه الغريب لم يكن يعني سوي حنقه وغضبه البالغين علي انديرا غاندي, للدرجة التي دفعته إلي تشبيهها برئيسة وزراء إسرائيل, أي أسوأ شخصيات ذلك العصر السياسية بالنسبة لمصر وسائر الدول العربية. والسبب في هذا الغضب العارم يعود كما يشرح غالب إلي ايام الرئيس عبدالناصر, حين زار السادات الهند بوصفه رئيسا لمجلس الأمة, وطلب مقابلة انديرا غاندي, إلا ان طلبه قوبل بالاعتذار, نتيجة لوجودها خارج العاصمة نيودلهي استاء السادات بشدة, واعتبرها اهانة شخصية واثر هذا فيما بعد علي رؤيته لجدوي واهمية العلاقات المصرية الهندية. تفتح هذه الواقعة للنقاش مسألة تأثير شخصية القائد السياسي, بكل ما تحمله من صفات واهواء وتناقضات, علي السياسات العليا للدولة. وفي مصر ما بين الثورتين اي ثورتي يوليو ويناير فكان الوضع أكثر تفاقما اذ سمح الإطار السياسي والقانوني للدولة بل شجع علي قيام نظام سياسي شديد المركزية, تنطلق معظم قراراته المصيرية من رغبات الرئيس وامنياته, ودعم تلك المركزية ثقافة سياسية متجذرة تجد في القائد اما المأوي, أو حتي المهرب من مسئولية اتخاذ قرارات مصيرية لها تبعات واسعة, ولنا فيما قاله وزير الخارجية محمود فوزي لعبد الناصر ابان ثورة العراق في عام1958 م دليلا ساطعا, فقد فاجأت ثورة عبدالكريم قاسم الرئيس جمال عبدالناصر وهو في جزيرة بريوني اليوجوسلافية, وفي طريق العودة إلي مصر علي متن الباخرة الحرية طلب عبدالناصر من مرافقيه وزير الخارجية محمود فوزي والكاتب الصحفي محمد حسنين هيكل ابداء رأيهما في اقتراح يحتمل وجهتي نظر, فعاد إليه فوزي قائلا: ان الكفتين متساويتين, واعتقد انك وحدك بحكم إلهام الزعامة قادر علي الترجيح بينهما! واقعة السادات مع انديرا غاندي ليست بالتأكيد الوحيدة التي دفعت فيها المصلحة الوطنية ثمنا باهظا لاهواء القائد الشخصية, وهي حتما لن تكون الأخيرة, ما لم يتغير الإطار الدستوري والقانوني للدولة المصرية باتجاه اعلاء شأن ودور المؤسسات, واجهاض احتمالات سيطرة القائد الفرد علي كل مقاليد الأمور. والمتابع للحوارات الدائرة هذه الأيام في الفضاء العام يلاحظ ان كثيرا من هذا الحديث يدور حول شئون السياسة الداخلية, وقليل منه يتعرض لشئون السياسة الخارجية, وكيفية تقنين اوضاعها, واصلاح هياكلها في العهد الجديد, وإذا كان هذا طبيعيا لان فقه الاولويات يوجب ترتيب الوضع في الداخل اولا, فإن مناقشة الدستور الجديد, وقد تكون علي الابواب, تستدعي النظر مليا إلي المواد المعنية برسم السياسات العامة للدولة, باتجاه مشاركة أكبر لمؤسسات الدولة في عملية صنع القرار السياسي, وضروري ايضا إعادة النظر في الاختصاصات الاساسية لوزارة الخارجية الواردة في قانون تنظيم وزارة الخارجية, والتي لم يطرأ عليها أي تغيير منذ صدور القانون, رغم تغيير الهيكل الإداري للوزارة أكثر من مرة. والأهم من ذلك بلا جدال هو التطبيق العملي, الذي يعتمد علي وجود إرادة سياسة من قمة الهرم, ورقابة شعبية من قاعدته تنتبه إلي ضرورة إنهاء ارتهان المصالح العليا للبلاد برغبة فرد واحد, والحد إلي اقصي درجة ممكنة من التأثير السلبي للأهواء الشخصية للساسة علي عملية صنع القرار السياسي.