مثلما يأخذنا الشاعر رفعت سلام إلي هيبة النص المركب, وطقوس الجداريات والملاحم الزاخمة, فإنه يأبي إلا أن يقرع الأجراس بقوة, محذرا من خطر محدق, وداعيا إلي مواجهته كما يليق بمثقف فاعل, لا يكتفي بالقول. وكمترجم أيضا لا يرضي رفعت سلام بأنصاف الحلول, فهو الذي اضطلع بالمهمة الثقيلة منجزا للمكتبة العربية خلال الأعوام الثلاثة الماضية بدأب فريد ترجمات الأعمال الشعرية الكاملة لكل من: كفافيس وبودلير ورامبو. ينشر مع صاحب دواوين هكذا قلت للهاوية, إلي النهار الماضي, كأنها نهاية الأرض, حجر يطفو علي الماء, وغيرها, دارت هذه الفضفضة الحميمة, حول ديوانه الصادر حديثا, والعديد من الأمور والقضايا الثقافية والفكرية التي تفرض نفسها علي كل مهتم بالشأن العام. تعيش الثقافة في هذه المرحلة تحديات كبري. كيف تري حاضر تلك الثقافة ومستقبلها, وأنت واحد من صناعها؟ وكيف تواجه المعوقات والتحديات؟ حتي الآن, لم تمتد يد البطش القمعية إلي الثقافة, بعد انفجار الثورة( لا تزال لديهم في قائمة الأولويات ما لم ينتهوا منه), لكن ذلك لا يعني الطمأنينة بحال( هل يمكن الاطمئنان إلي من يكسرون تمثال طه حسين؟ إلي من دمروا تمثال محمد كريم؟ إلي من شوهوا تمثال أم كلثوم, إلي من يكنون الكراهية والحقد تجاه نجيب محفوظ, والسينما والفن التشكيلي والموسيقي والغناء؟). الثقافة المصرية واقعة الآن' تحت التهديد', وحين يفرغون من' التمكين' في القطاعات الأساسية الأخري, سيلتفتون إلي الثقافة والمثقفين والمبدعين. ويتوقف مستقبل الثقافة المصرية الراهنة علي نتيجة المعركة القادمة, التي لن تكون سهلة بحال, حيث سيديرها أو يتواطأ عليها من يمسكون بتلابيب السلطة حاليا, ويديرون عملية' التمكين' في كل القطاعات. أعرف أن' الردة' الظلامية, بحكم قوانين التاريخ, مستحيلة, لكنهم يفرضون علي المجتمع والمثقفين معارك شرسة, تافهة المضمون, بين الحين والحين, ولا يمكن التقاعس عن خوضها إلي النهاية. ولا بديل عن تكاتف المثقفين, من جميع المجالات والأجيال, لأن المعركة ليست شخصية, ولا هي جزئية; هي المعركة الحاسمة ضد فلول الظلام. البعض يراهن علي الكلمة أكثر من ذي قبل في عصر الثورات, والبعض يراها انتقلت إلي ظل أكثر هدوءا, بعيدا عن الصخب. هل عظمت أمانة الكلمة أم اضمحلت؟ في البدء, كانت الكلمة, وستبقي, سواء كانت مكتوبة أو منطوقة. إنها صوت التعبير الإنساني الأول, وستبقي كذلك. فالكلمة هي التي رفعت شعارات الثورة في ميادين التحرير المصرية, ببلاغة وبساطة الكثافة والتعبير والغناء. وهي الآن التي تطالب باستكمال الثورة' المغدورة', في تلك الميادين من جديد. إنها أداة المتعلم والأمي, في آن. لكن الكلمة الأدبية, القصيدة والقصة والرواية, فهي تنتظر انقشاع الدخان, والغاز المسيل للدموع, وطلقات الرصاص والخرطوش, والدماء المسفوحة علي الأسفلت, وصرخات التعذيب في الأماكن السرية, لتبدأ خطواتها الواثقة. هل يروق لك تعبير' الظلاميون' الذي يطلق علي بعض التيارات المتشددة؟ وهل هم ظلاميون فعلا؟ نعم, هو مصطلح دقيق. فتلك التيارات مضادة لحركة التاريخ, التي لا يدرون بها, ولا يؤمنون بها( لهذا, فهم أعداء من هذه الزاوية للتاريخ, ولا يعرفون سوي الوعظ والإرشاد). لقد كان المشهد مرعبا بالفعل حين امتلأت سماء ميدان التحرير في' جمعة قاندهار' الشهيرة بالأعلام السوداء, وأعلام بن لادن والسعودية, دون العلم المصري. ولا تزال صور بن لادن ترتفع في تجمعاتهم الأخيرة.وذلك مؤشر دامغ علي توجهاتهم وأحلامهم, حين يصبح' بن لادن' مثلهم الأعلي! هي حركات لا تعترف أصلا بأن للإنسان رأيا ما في أي شأن من شؤون حياته, وأن عليه بالقسر أن ينصاع صاغرا للتعاليم الصارمة التي ترتب له دخوله الحمام في الصباح إلي دخوله السرير في الليل, وما بينهما. أما تلك' التعاليم', فهم الأدري بها, بلا نقاش. ذلك يعني ببساطة أنهم يسعون إلي إلغاء إرادة الإنسان كليا, وبالتالي إلغاء حريته, والعودة به إلي زمن العبودية, باسم النصوص التي يعتبرونها مقدسة, ويعتبرون أنفسهم حراسا عليها. وهو ما يعني بالتالي نوعا من الفاشية الدينية, التي لا تعترف بوجود' الآخر'. وهو ما يؤدي, وذلك ما حدث خلال العامين السابقين, إلي عودة' التكفير', و'إهدار دم' الآخرين, تحت مظلة تلك النصوص. إنه استخدام الدين' الحنيف' في قهر' خلق الله'! فهل هناك مصطلح أقوي من' الظلامية' يليق بهؤلاء؟ أما' الإبداع' فيقرنونه ب'البدعة', التي يعتبرونها' ضلالة', التي يعتبرون مآلها' النار'! وقد شهدنا فصولا سابقة- قام بها ظلاميون, باسم الدين, من دعاوي متكررة لمصادرة' ألف ليلة وليلة', وأعمال محيي الدين بن عربي, واتهام أعمال نجيب محفوظ بالدعوة إلي الانحلال. وللأسف, فلا يزال مثل هذا الفكر مطروحا, ويطارد المثقفين والمبدعين, بالأمس واليوم وغدا, إلي أن يقضي الله أمرا كان مفعولا. الواقع غذاء الفن الأصيل, لكن هل تفسد الأحداث الطاغية ذلك الفن أحيانا؟ وما رأيك فيمن يحاولون إيجاد دور شعري لهم من خلال عملهم كنشطاء وخطباء سياسيين بالأساس؟ لا يقوم الفن بمعزل عن الواقع. والأحداث تثري الإبداع الفني بمعناه الواسع, ولا تنتقص منه. تغذيه, تجدده, تمده بنسغ جديد. أقصد' الفن', بمعناه المحدد, لا تلك الممارسات' السياسية' التي تتخذ' شكلا' فنيا معينا, وتمثل إعلان حضور ما( مثلما يوقع الموظفون في كشوف الحضور والانصراف). فكل القصائد التي تتعلق ب'الثورة', حتي الآن, لا تزيد علي ممارسة سلوك' سياسي' وإعلان موقف; بما يشبه خطبة عصماء, لا علاقة لها بالشعر. هي قصائد استهلاكية, ينتهي دورها وفاعليتها بمجرد إلقائها أو نشرها, لأن عمر صلاحيتها الافتراضي لا يزيد علي ذلك, وليس فيها من طاقة شعرية ما يطيل عمرها عن ذلك, فهي تستهلك مرة واحدة وأخيرة. ومن الوهم أن يتصور صاحبها أنه يقوم في ذلك بدور' شعري'; إنه في هذه الحالة يستخدم' تقنيات' شبه شعرية لإنتاج عمل' سياسي', يوهم أنه' شعري'. فهي في أفضل الحالات' قصيدة مناسبات' ينتهي دورها بانتهاء المناسبة. أما إذا كانت المناسبة ممتدة, كحال الثورة المصرية, فإن دورها ينتهي بانتهاء إلقائها أو نشرها. وبالطبع, فخلال الثورة, لا يمكنني أن ألوم أحدا علي ذلك( مثلما لا يمكنني أن ألوم من يرفع لافتة سياسية في ميدان التحرير بها خطأ نحوي!), لكنني ألومه إن حاول تسويق هذا' الوهم',