حينما يدوي في المكان صوت عال.. تنصت الأسماع وتلتفت الأنظار.. إنها حركة دقيقة عالية للغاية تعلن أن كئوس اللاتاي قد حلت ترحب بالقدوم.. تغرد له. .فبهذا الإبريق الذي يباهي بما فيه.. متوسطا الدائرة المذهبة التي تحتضن الأكواب.. يعلنالمضيف أن اللاتاي قد جاء.. يداعب السمع والبصر قبل الذوق.. ينعش الحضور.. فلا يمكن لزائر المغرب أن يمكث دقائق دون أن يرحب به اللاتايأو الشاي كما يطلق عليه بالمغرب, الذي يحمل حكايات وحكايات.. ترتبط بالماضي والحاضر.. بالصحراء.. بالشعر.. بالكرم.. بالصحة..يمتزج بأمسيات السهر..وحلقات النقاش السياسي..ولم لا ؟ فهو اللاتاي. حينما زرت الرباط استقبلني هذا اللاتاي,الذي يقدمه المغاربة محلي بالسكر,استوقفني صوته ومذاقه..وسألت عنه, ففتحت نوافذ الذاكرة تحكي تاريخه..وأصول إعداده.. وكما أدمن المغاربة شرب الشاي في جلسات مغربية أصيلة لم يفت شعراؤهم ولا الشعراء العرب تخليده في أبياتهم.. فهذا الشاعر العراقي أحمد الصافي النجفي يتحدث عن الشاي وأقداحه ومجالسه قائلا: لئن كان غيري بالمدامة مولعا فقد ولعت نفسي بشاي معطر إذا صب في كأس الزجاج حسبته مذاب عقيق صب في كأس جوهر به أحتسي شهدا وراحا وسكرا وأنشق منه عبق مسك وعنبر وامتزج المؤرخون مع هذه الظاهرة.. يتحدثون عن بداياتها ومتي وكيف صار اللاتاي ظاهرة شاملة استثنائية في التاريخ.. كما يقول أحمد البشير, الباحث في تاريخ وتراث المغرب الصحراوي, فهذا المشروب الساخن الغريب ذو المصدر النباتي مستورد من الشرق الأقصي عبر أوروبا ليصبح المشروب الرئيسي بالمغرب الصحراوي في زمن قياسي, مزيحا حليب الابل المنتوج المحلي بامتياز عن المركز الاول كمشروب للاستقبال الذي احتله لآلاف السنين. اختيار الشاي ليكون مشروب الاستقبال بهذه المنطقة في أثناء فترة تاريخية محددة شهدت تحولات سياسية واقتصادية حاسمة قد أحدث انقلابا جذريا في تفاصيل الحياة اليومية لمجموعات بشرية كاملة, شكلت معه قواعد إعداده وتقديمه محورا في تنظيم العلاقات الاجتماعية وغدت فترات احتسائه الجماعي احتفالا يجسد القيم الايجابية في المجتمع. فيحكي أن اللاتاي كان هدية من بريطانيا إلي المغرب..فقد أهدت ملكة بريطانيا وإيرلندا آن ستيورات(1702-1714) إلي المولي اسماعيل(1672-1727) هدايا من بينها الشاي, فقد خمنت هذه الملكة أن إبريقين نحاسيين كبيرين والقليل من الشاي ذي النوعية الجيدة يمكن أن يلين قلب السلطان الذي يرفض إطلاق سراح69 أسير حرب بريطاني لديه. ومنذ أن قدم الانجليز هدايا اللاتاي إلي السلاطين ومنحها هؤلاء إلي رجال البلاط انتشر بسرعة هذا المشروب رويدا رويدا إلي أن بلغ أدني طبقات المجتمع, بحيث أصبح تناول الشاي اليوم بالمغرب أكثر منه بإنجلترا. وكما أن للشاي, وهو بالمناسبة صيني مضافة إليه أعشاب مغربية تعطيه نكهة رائعة, تاريخا, فإن إعداده فن يتطلب معرفة وقدرة متميزتين حتي لا يقع أدني خلل في التوازن بين مختلف المواد المكونة للمشروب, وأمر إعداد اللاتاييتعلق بأباريق ثلاثة متتالية أولها قوي, والثاني متوازن تضاف اليه أحيانا مواد أو أعشاب معطرة كالنعناع, والاخير ضعيف, لذلك يقال إن الاول مر كالحياة والثاني لطيف كالحب والثالث خفيف مثل الموت. فالابريق الاول كبير يستخدم لغلي الماء, أما الصغير فيوضع فيه الشاي الذي يتم غليه مع القليل جدا من الماء ليرمي علي الفور ثم يسكب عليه الماء المستمر في الغليان وترمي فيه قطعتان كبيرتان أو ثلاث من السكر القالب,التقليدي والنعناع, وبعد الانتظار قليلا يسكب القليل ليتم تذوقه, وتملأ كأس, اثنتان لتفرغا من جديد في ابريق الشاي الصغير ويقدم المشروب في الاخير إلي الحضور. ولا يشرب الشاي بهدف الاستمتاع به فقط ولكن لتوفير الفضاء المناسب للمناقشة والتفاوض وطرح الأمور الجدية, لذلك أصبح إعداده عملا محاطا بالوقار وممارسة مليئة بالمعاني الطيبة. ومنذ دخول الشاي الصحراء أبدع الصناع يحتفون بالابريق والصينية والكئوس والسكرية,وتطورت اواني تقديم اللاتاي عبر العصور.. حيث بدأت مستوردة من أوروبا, فأصبح للشاي طقم كامل يتكون من12 قدحا أو فنجانا مع أطباقها, وإبريق, وعلبة شاي وعلبة سكر واناء مخصص للماء المغلي, وكان الشاي يقدم في فناجين خزفية صغيرة,ثم تطور إلي كوب, ما بين كونه مذهبا أو شفافا مضلعا,وغدت هذه الاحتفالية مرتبطة بالتحولات التاريخية. لكن هل اللاتاي متعة حسية وسمعية فقط ؟ لا بل إن له فوائد صحية جمة, منها أنه يساعد علي حرق الدهون,وأنه من مضادات الاكسدة و يساعد الكبد علي أداء وظيفته بشكل أكثر فعالية,وشربه ثلاث مرات يوميا يحرق200 سعر حراري إضافي يوميا,وعلاوة علي ذلك يخفض الشاي مستوي السكر في الدم, ويحمي القلب من الأمراض,ويمنع تشكل الجلطات الدموية غير الطبيعية.