لا شك أن غياب التوافق السياسي عن المشهد السياسي في مصر بعد الثورة قد أثر سلبا علي أداء الدبلوماسية المصرية في تعاملاتها مع المخاطر والتحديات الخارجية. كما أن الرؤية الاستراتيجية لدي الطبقة السياسية الجديدة الحاكمة وعدم قدرتها علي تبني أدوات غير تقليدية لمواجهة المهددات الخارجية للأمن القومي المصري قد ترتب عليها عدم فاعلية الدور المصري أو حتي غيابه عن محيطه الاستراتيحي. بالنظر إلي إقليم الساحل وشمال أفريقيا الذي يمثل أهمية جيواستراتيجية كبري بالنسبة لصانع القرار المصري نجد أنه يشهد ترتيبات أمنية وعسكرية غربية جديدة بحجة محاربة الإرهاب والتخلص من نفوذ الجماعات الإسلامية الموالية لتنظيم القاعدة في شمال مالي. إنها حرب غربية جديدة في ساحل الصحراء الأفريقية التي تعد واحدة من أشد المناطق فقرا في العالم, حيث تتردي فيها مستويات المعيشة بدرجة كبيرة ويحتاج نحو ثمانية ملايين من سكانها إلي مساعدات إنسانية طارئة. وبغض النظر عن الحملات الاعلامية الغربية التي تروج للتدخل العسكري في شمال مالي وتبالغ في قوة وخطورة تنظيم القاعدة في نسخته الأفريقية فإن التكالب الأوروبي والغربي عموما علي شمال أفريقيا ومنطقة الساحل والصحراء له مببراته الأخري المسكوت عنها غالبا. فهل يعقل تصديق كلام رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون أمام مجلس العموم بأن تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي والجماعات الموالية له يشكل تهديدا مباشرا لأمن بريطانيا العظمي ؟. إذ كيف يتأتي لمجموعة من المقاتلين الإسلاميين لايتجاوز عددهم الألفين ويبعدون آلاف الكيلومترات في صحراء أفريقيا الشاسعة أن تمثل خطرا داهما علي الأمن الأوروبي.! ولا يخفي أن الجماعات الجهادية مثل أنصار الدين في مالي أو بوكوحرام في نيحيريا هي نتاج أوضاع محلية وإقليمية محددة ومن ثم فإنها تحمل أجندات غير موجهة للغرب بالأساس. كما أن قيام هذه الجماعات باختطاف رهائن غربيين لا ينطلق من دوافع سياسية أو أيديولوجية وإنما تحركه رغبات جنائية تتمثل في الحصول علي الأموال من أجل توفير الدعم المالي اللازم لأنشطة هؤلاء المقاتلين. وعليه يصبح إعلان الإدارة الأمريكية عن اعتبار بوكوحرام تنظيما دوليا إرهابيا محل تساؤل واستغراب لأنه يخلط الأوراق و يغطي علي الأهداف الحقيقية للسياسة الأمريكية في أفريقيا. بعيدا عن شعار الحرب علي الإرهاب الذي رفعته الإدارة الأمريكية في أعقاب أحداث11 سبتمبر والذي يمثل قناعا تستتر حوله السياسة الخارجية الأمريكية في الدفاع عن مصالحها الاقتصادية والسياسية الاستراتيجية في أفريقيا فإننا إزاء حرب باردة جديدة تدور رحاها في القارة الأفريقية. إن الهدف الحقيقي للتكالب الأمريكي والأوروبي علي منطقة الساحل والصحراء والذي يسبق الحرب في مالي إنما يتمثل في استخدام وسائل عسكرية للحفاظ علي الفضاء الاستراتيجي الغربي في مواجهة النفوذ الصيني المتصاعد في أفريقيا.. و يمكن في هذا السياق رؤية وفهم القرار الأمريكي في22 فبراير2013 بإرسال نحو مائة عسكري أمريكي إلي النيجر من أجل إنشاء قاعدة تجسس خاصة بالطائرات بدون طيار. و ثمة تقارير أخري تفيد بعزم إدارة أوباما إنشاء قاعدة أخري في جنوب ليبيا الذي تضعف فيه هيمنة حكومة طرابلس. معني ذلك أن قاعدة جيبوتي في شرق أفريقيا والنيجر في الساحل والصحراء تضمن للولايات المتحدة الهيمنة العسكرية علي إقليمي شرق وغرب أفريقيا بالإضافة إلي الشمال الأفريقي الذي يكتسب أهمية محورية نظرا لارتباطه بأزمة الصراع العربي الإسرائيلي. من جهة أخري نلاحظ أن فرنسا التي حاولت عام1957 إنشاء منظمة للتعاون خاصة بدول الساحل الأفريقي قد وقفت ودعمت انتفاضات الطوارق أكثر من مرة بعد الاستقلال, كما أن قواتها الموجودة في ساحل العاج والجابون وبوركينا فاسو تدخلت لتثبيت بعض الحكام الأفارقة أو خلع بعضهم الآخروفقا لمفهوم المصلحة الوطنية الفرنسية. ولا يخفي أن الاتحاد الأوروبي الذي يدعم الحملة العسكرية في مالي يتدخل في إقليم الساحل الكبير وفقا لمشروعه الخاص الذي يستهدف بناء القدرات العسكرية والأمنية لهذه الدول الأفريقية من أجل محاربة الهجرة غير الشرعية والاتجار في البشر والمخدرات. وأيا كان الأمر فإننا أمام مشروع استعماري غربي جديد في أفريقيا وإن رفع دعاوي التحرير ومحاربة الإرهاب, إنه يسعي لتحقيق هدفين رئيسيين أولهما: الوصول إلي مصادر الثروات الطبيعية التي يزخر بها إقليم الساحل والصحراء( مثل الدهب واليورانيوم والنفط والمياه وما شاكل ذلك). إذ لا يخفي أن الأزمة المالية والاقتصادية التي عصفت بأوروبا ودفعت ببعض بلدانها إلي انتهاج سياسات تقشف قاسية جعلها تولي ناظريها إلي الفضاء الأفريقي الذي يمثل دائما- كسالف عهده أثناء فترة الاستعمار الأولي- الملجأ والملاذ للأوروبيين. أما الهدف الثاني: فإنه يتمثل في مواجهة النفوذ الصيني المتصاعد في القارة الأفريقية, حيث تسعي الصين إلي اكتساب قلوب وعقول الأفارقة من خلال الدخول في مشروعات البنية الأساسية التنموية مثل ملاعب كرة القدم والطرق والجسور. وعليه تسعي الولاياتالمتحدة وأوروبا إلي قطع الطريق أمام الصين وغيرها من القوي الاقتصادية الصاعدة في النظام الدولي الجديد مثل روسيا والهند والبرازيل من خلال استخدام أدوات عسكرية للتعامل مع ظروف الحرب الباردة الجديدة في الواقع الأفريقي المعاصر. وإذا استعرنا مقولة الممثل المسرحي الرائع محمد صبحي انتهي الدرس يا غبي ا لوجدنا أن الغرب يتبني نفس المقدمات الخاطئة في التعامل مع صراعات الساحل والصحراء الأفريقية وهو ما ينذر بنتائج كارثية. إن خبرة التدخل الدولي في العراق وأفغانستان لا تزال ماثلة في الأذهان, فعلي الرغم من الحروب التي خاضتها أكبر جيوش العالم في تضاريس أفغانستان فإنه من المتوقع عودة طالبان إلي سدة الحكم مرة أخري في عقب انسحاب القوات الدولية وكأنك يا أبو زيد ما غزيت. بل الأكثر من ذلك فقد انتشرت الأيديولوجية الإسلامية الراديكالية في مناطق كثيرة من العالم وهو ما أدي إلي عدم الاستقرار في القرن الأفريقي شرقا وفي ساحل الصحراء غربا. وربما تتم إعادة انتاج النموذج الأفغاني مرة أخري في حالة الحرب علي مالي, حيث إن الطبيعة الجغرافية القاسية وعدم قدرة القوات الغربية وحتي الأفريقية علي التعامل مع معطيات الصحراء القاسية من ناحية وقدرة المقاتلين الإسلاميين علي خوض حروب طويلة وفقا لتكتيك حرب العصابات من ناحية ثانية, ينذر ذلك كله بنتائج كارثية في المنطقة. إذن ما العمل مصريا وعربيا وأفريقيا ؟ كما نبهنا من قبل في هذا المكان فإن الصراعات التي تشهدها منطقة الساحل الأفريقي هي نتيجة اختلالات إقليمية وصراعات قبلية تاريخية وفشل الدولة الوطنية. وهو ما يعني أن مسألة التطرف الإسلامي تعد أحد أعراض الصراع وليس المسبب الرئيسي له. وعليه فإن التدخل العسكري والركون إلي الحلول العسكرية لن يجدي في هذه الحالة, كما أن مسألة عودة الاحتلال العسكري الغربي لم تعد مقبولة في النظام الدولي الراهن. نحن في حاجة إلي قيادة واعية تقود الجهود العربية والأفريقية لإيجاد حلول أفريقية للمشاكل الأفريقية بعيدا عن المشاريع الغربية المفروضة والمستوردة من الخارج. إننا بحاجة إلي بناء منظومة سياسية تلبي احتياجات الإنسان أولا في دول الساحل والصحراء وفقا لأسس العدالة والمساواة وبعيدا عن سياسات الهيمنة التي تفرضها دول الشمال المتقدمة. إن مصر بحاجة إلي عودة الوعي بالذات التاريخية والحضارية كي تدافع عن مصالحها الاستراتيجية في جوارها الأفريقي والعربي. فهل يعقل أن يتكرر نفس سيناريو الحرب الباردة الأولي وتدفع شعوب المنطقة ومن بينها مصر ثمن صراع القوي الكبري و لعبة الأمم علي اقتسام النفوذ والثروات في أفريقيا؟