علي غير موعد.. جاءني جحا شاكيا.. صارخا.. وقد ركبه ألف عفريت وعفريت وقال لي وهو ينفر ويزبد غيظا وكمدا: لقد عاد نيرون بعد أن أحرق روما ليحرق مصر كلها.. لقد أشعل النيران في بورسعيد ونزل منها إلي مدن الدلتا.. وها هو يدخل القاهرة مع أعوانه المخربين.. الحقوا مصر قبل أن تشتعل فوضي وخرابا. وها هم يمنعونني أنا وحماري من دخول ميدان التحرير.. وقالوا لي: ممنوع يا أبو زعبوط أحمر! سألته: من الذي منعك.. يا ملك الساخرين في الأرض.. أهم الثوار يا تري؟ قال: للحق لم أر هذه المرة ثوارا ولا يحزنون.. بل شاهدت وجوها غريبة كالحة لم أشاهدها هنا من قبل.. تضع فوق رأسها أقنعة وتزين خاصرتها وسراويلها بخناجر وسيوف.. ليس هذا أبدا رداء الثوار! قلت: وماذا قلت لهم؟ قال: قلت لهم.. لقد عشت معكم أنا وحماري هذا.. أيام الثورة الأولي. أنا صاحب قصيدة: اصحي يا مصر اصحي الفجر شقشق وبان وغني الطير علي الأغصان.. قوم يا مصري حطم القضبان! ولكنهم التفوا حولي في سخرية وقالوا لي: شخلل جيوبك.. يسلك طريقك! قلت لهم: يعني ايه؟ قالوا: يعني ادفع عشان تمر أنت والمحروس اللي أنت راكبه؟ سألتهم: هو ميدان التحرير بقي دلوقتي بتذاكر؟ أمسكوا بي وأنزلوني من فوق الحمار وراحوا يركبونه واحدا بعد الآخر! قلت له: وأنا أضرب كفا بكف تذاكر ايه.. دول شوية بلطجية ومسجلين خطر بيصرف عليهم من لا يريد للثورة أن تنجح.. وللبلد أن تنهض! قال: ليتحول الميدان يا سيدي إلي رمز للبلطجة والتجرمة.. التي أصبح صوتها يعلو حتي فوق صوت الدولة نفسها.. والعالم يتفرج علينا ويضرب كفا علي كف! قلت: لقد حاول الأمن أن يبعدهم ويكرشهم بالقوة أكثر من مرة.. ولكنهم عادوا من جديد! قال جحا: وهو يرفع عمامته من فوق رأسه: يعني يا سيدي هم الآن أقوي من الجندرمة نفسها.. أقوي من العسس.. لماذا لا يشكلون إذن حكومة من بينهم ما داموا هم الأقوي.. الواد زقلط للخارجية والمعلم بطحة للداخلية والواد ملقط للاقتصاد.. والمعلمة قدارة للتموين! وآسف جدا للدكتور هشام قنديل رئيس الوزراء الذي فيما يبدو أنه لا حول له ولا قوة حتي الآن.. مع بلطجية التحرير.. واللا يمكن فيه حسابات ثانية.. ومواءمات أخري.. احنا موش عارفينها! ......... أتلفت حولي فلا أري أثرا لشحرور حمار عمنا جحا الشهير وهو رفيقه في السفر وفي السراء والضراء.. سألته: أين رفيقك في السراء والضراء؟ قال وهو يبسمل ويحوقل.. تقصد حماري شحرور.. لقد استولي عليه البلطجية.. كما استولوا علي ميدان التحرير.. الذي أصبح الآن مقرا ومقاما للبلطجية وأصحاب السوابق والمسجلين خطر.. ويجري داخله ما يجري داخل الخيام المنصوبة.. في جنح الظلام.. سألته: ماذا فعلوا بحمارك؟ قال: لقد راحوا يركبونه جملة وفرادي ويطوفون به الميدان.. وأنا أصرخ فيهم.. ولا حياة لمن تنادي.. قلت: هل ستترك حمارك شحرور لهم يلعبون به.. ويعربدون؟ قال ضاحكا: أنا أعرف شحرور حماري جيدا.. سوف يجد له مخرجا.. أظنه الآن مختبئا داخل خيمة من خيام الشيطان في التحرير.. لسوف يتتبع أثري.. ويهتدي إلي هنا.. وقد جئت إليك معه قبل ذلك أيام الثورة عندما كانت حقا ثورة.. أتذكر عندما قرأت لك كف مصر بعد الثورة؟ قلت: ولكنك لم تذكر لي يومها أنه سوف يستولي عليها البلطجية والمخربون الذين يتصدرون المشهد السياسي. بعد أن تاه منهم الطريق.. يشجعهم من يفرقون بين أفراد الأمة.. ويلبسون البدل الشيك ويظهرون علي شاشة التلفاز وهم يحملون ألقابا سحرية.. ودعوات تخريبية.. ولهم أحزابهم وصحفهم وقنواتهم التليفزيونية.. ويغررون بالسذج من خلق الله والمأجورين وأطفال الشوارع.. وكل شيء بثمنه.. ليحطموا كل ما هو جميل وطيب في هذا البلد.. وينشرون الفوضي والدمار والحرق والنار.. سلاحهم الرصاص وقنابل المولوتوف.. ودعوات العصيان.. في المحافظات.. التي لا حول لها ولا قوة.. حتي تركع مصر جوعا وفرقة.. قال: مصر لن تركع أبدا.. هكذا قال لنا أجدادنا العظماء.. واللا غيرت رأيك؟ قلت: مصر يا عزيزي.. قد تغفو أحيانا.. ولكنها لا تنام أبدا! قال: دعني أذكرك بما قاله هيرودوت الرحالة الإفريقي الذي زار مصر قبل الميلاد: مصر شمعة مضيئة تحت ماء النهر.. إذا أظلمت الدنيا.. طفت علي السطح وأضاءت الدنيا من جديد! قلت: يا سلام.. يا عم جحا يا متنور! ............ استيقظ داخلي داء قديم ورثته عن الأجداد في الزمان الغابر.. اسمه داء النخوة والوقوف إلي جانب الحق ونصرة المظلومين.. وكم كلفني هذا الداء الكثير من الجهد والعرق والمزيد من الصدمات واللطمات.. فقلت لعمنا جحا: هيا بنا يا ملك الساخرين في الأرض.. سألني بدهشة: لا تقل لي إلي ميدان التحرير فكفاني ما جري لي؟ قلت: وهل هناك مكان غيره نقصده في هذه المساحة الزمنية من عمر الوطن؟ ذهبنا مشيا علي الأقدام.. في شارع الجلاء.. وعيون أمة لا إله إلا الله تتابعنا يا للعجب والتعجب كله.. من هذا الذي يرتدي زعبوطا أحمر ولاسة خضراء فوق صديرية مزركشة بألف لون وسروالا من بتوع أهل ألف ليلة وليلة.. ويمشي في خيلاء متأبطا ذراعي؟ وصلنا إلي ميدان التحرير من ناحية المتحف المصري.. قلت لعمنا جحا: أجدادنا العظام يرقدون هنا.. اقرأ لهم الفاتحة يا عم جحا؟ راح يتمتم في سره بالفاتحة.. لم يكد ينتهي منها حتي وكزه عفريت طويل القامة كأنه مارد خرج لا أعرف من أين وسأله: إلي أين يا شيخ العرب؟ قال جحا: إلي الميدان.. قال المارد ذو القناع: ادفع المعلوم.. تمر علي الرحب والسعة! سأله جحا: كم أدفع؟ قال: بالدراهم والدنانير.. ما يجود به كرمك العربي؟ سألته أنا: وبالمصري؟ قال: ورقة بعشرة جنيهات.. اللي معاك عجل وراءك طابور طويل! قلت لعمنا جحا: تعال نمشي علي الكورنيش حتي كوبري قصر النيل.. لعلنا نجد لنا مخرجا في يومنا هذا! ......... عند مدخل ميدان التحرير من ناحية كوبري قصر النيل.. حاولنا الدخول منعتنا الأسلاك الشائكة والوجوه النكدية التي تقف خلف الأسلاك مدججة بالسلاح الأبيض.. وبالحقد الدفين.. قلت: تعال نقف معا علي سور كوبري قصر النيل كما يفعل العشاق الصغار الذين لا يملكون ثمن الجلوس علي الكازينوهات والكافتيريات.. ويقضوها باثنين حمص الشام وقوفا علي سور الكوبري! ونحن نهم بالوقوف علي سور الكوبري الذي بناه الخديو إسماعيل في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ليحول القاهرة إلي قطعة من باريس.. أمسكت بذراعي سيدة ؟ مصرية أصيلة حتي النخاع قالت لي: انني أبحث عنك يا سيدي فأنا من قرائك منذ أكثر من ثلاثين عاما.. أنا اسمي الدكتورة فاطمة حافظ السويفي أستاذة الكيمياء الاشعاعية في هيئة الطاقة الذرية.. دعني أشكرك أولا علي ما كتبته بعنوان: اللعب علي قميص مبيض المحارة.. لقد أرحت قلبي ربنا يريح قلبك.. لقد أعجبني جدا استعافتك بصفوة الفكر وفلاسفة القوم.. إلا أنني أريد أن أضيف إليهم ما قاله دافيد كاميرون رئيس وزراء انجلترا.. عندما حدث شغب في لندن خلال أيام ثورتنا التي كانت راقية.. حيث قطع زيارته لجنوب افريقيا وعاد إلي بلاده لمواجهة هذا الشغب وقال: عندما يتعلق الأمر بأمن انجلترا.. فلا يحدثني أحد عن حقوق الإنسان! صفق عمنا جحا لكلام رئيس وزراء انجلترا. وقال: هذا هو الحق وهذا هو الصدق! تتابع الدكتورة فاطمة السويفي كلامها بقولها: أما ما يدعونه عن سحل المتظاهرين.. فإنني رأيت بعيني سحلا أبشع في موسكو.. وسحلا أكثر توحشا في فرنسا نفسها.. عندما تظاهر مجموعة من الفرنسيين لمنع اقامة مطار في منطقة غابات.. وجاءت الشرطة وجرت خلفها فتاة حتي تكشفت ملابسها الداخلية ولحمها أيضا.. ورأيت نفس المشهد في شارع وول ستريت في لندن.. ثم إن جارتنا القطة المدللة المسماة بإسرائيل تسحل الدنيا كلها من أجل عيون إسرائيل! سيدي الفاضل مازالت الأستاذة بهيئة الطاقة الذرية تتكلم ونحن من حولها منصتون انني أحترم شعار حقوق الإنسان.. بشرط أن يطبق علي كل الناس.. وليس علي بعض الغوغاء.. وآسفة علي هذا النعت.. فهم فئة مغرر بهم.. سألتها: هل استطعت اقتحام حصون هؤلاء الغوغاء وأسلاكهم الشائكة في ميدان التحرير؟ قالت: يا سيدي أنا انسانة ولي حقوق ولكني محرومة منها! اسألها: ازاي؟ قالت: لقد تسببت هذه الفئة الغوغائية في ضياع حقوقي كإنسانة.. أنا أذهب لزيارة والدتي المريضة بالمترو.. ولكنني محرومة من حقي في زيارة أمي بسبب قطع هؤلاء الغوغاء لخطوط المترو.. وخوفي من الهجوم علي الركاب.. هل يرضي هذا أمريكا وغيرها من الدول التي تدافع عن حقوق الإنسان؟ كما أنني أريد أن أجدد جواز سفري لانني أريد أن أذهب للعمرة.. ولكن كيف أذهب وباب مجمع التحرير مغلق من قبل هؤلاء الغوغاء؟ ......... مازلنا وقوفا في ظل تمثال أسد قصر النيل.. الدكتورة فاطمة السويفي وعمنا جحا وأنا.. هي تتكلم ونحن ننصت والأسلاك الشائكة تغلق ميدان التحرير بالضبة والمفتاح.. قالت: يا سيدي المظاهرات في كل الدنيا لها قواعد وأصول.. تصريح مسبق+ خط سير محدد تماما+ مدة زمنية محددة.. إذا انتهت فض البوليس المظاهرة فورا! يا سيدي الإنسان المصري الذي يعيش حول محيط ميدان التحرير له حقوق أيضا ونفس الشيء بالنسبة للذين يعيشون في محمد محمود والاتحادية ولكنهم يعيشون في فوضي بلا حدود.. بلا محلات بلا أمن بلا مدارس لأولادهم.. ومدارسهم أحرقها الغوغاء! ......... تلفتنا حولنا.. فلم نجد عمنا جحا.. أسأل: أين ذهب يا تري؟ قالت: ذهب يبحث عن حماره! قلت: لن يجده وسط هذه الغابة التي تمرح فيها وتسرح هذه الوحوش البشرية.. وربما أكلته الذئاب والضباع التي تختفي داخل هذه الخيام اللعينة!{