تمثل دعوة بعض أحزاب جبهة الإنقاذ لمقاطعة الانتخابات البرلمانية المقبلة خطأ فادحا ليس فقط ضد مصلحتها بل مصلحة العملية الديمقراطية أيضا. فرغم أن المعارضة لديها الكثير من التخوفات الحقيقية والمشروعة حول ضمان نزاهة وشفافية العملية الانتخابية خاصة بعد رفض تشكيل حكومة إنقاذ وطني تتسم بالحيادية في إشرافها علي الانتخابات, فإن خيار المقاطعة ليس الخيار الأمثل في هذه المرحلة, فمن ناحية فإن مشاركة المعارضة, خاصة أحزاب جبهة الإنقاذ لا تعني التنازل عن مطالبها أو الرضوخ للسلطة الحاكمة والقبول بسياسة الأمر الواقع, ولكنه فعل إيجابي لتصحيح التشوه والخلل السائد في العملية السياسية بوجود فصيل واحد هو المهمين علي التفاعلات السياسية وتوجيهها وفقا لأجندته عبر آلية الانتخابات, أي أن مشاركة المعارضة تمثل لها فرصة مواتية للحصول علي أكثرية مجلس النواب بما يمكنها من تشكيل الحكومة المقبلة وفقا للدستور, وبالتالي تصحيح العملية السياسية, وأبرزها تعديل المواد الخلافية في الدستور وفقا لآليات مشروعة وديمقراطية. ومن ناحية ثانية فإن مشاركتها تفند اتهامات الأحزاب الإسلامية لها بكونها تخشي من الصندوق لأنها لا تحظي بالدعم الجماهيري في الشارع ومن ثم تريد إبقاء الأوضاع ضمن المسار الثوري والاحتجاجي وديمقراطية الشارع والعصيان المدني, بل إن غيابها سوف يتيح للأحزاب الإسلامية أن تحتفظ بهيمنتها علي المشهد السياسي, ومن ثم الاستمرار في حالة الاستقطاب والغليان. لكن حتي يمكن للمعارضة أن تحقق تلك الأهداف من المشاركة فعليها أن توظف جيدا حالة التخبط والتعثر في أداء التيار الإسلامي اقتصاديا وسياسيا خلال الفترة الماضية, وهو ما انعكس في تزايد حالة الاحتقان في الشارع وتدهور الأوضاع الاقتصاية وتزايد موجة الاحتجاجات الفئوية والاعتصامات والعصيان المدني, إضافة إلي حالة الانفلات الأمني الواضحة, لكن هذا التوظيف لن يكون فقط بإلقاء الاتهامات علي النظام الحاكم, وإنما بتقديم رؤي وبرامج بديلة قابلة للتطبيق لكل مشكلات المجتمع, بحيث تكون قادرة علي إقناع المواطن العادي بأن خياره وتفضيله للتيارات الإسلامية لم يكن صائبا وأنها تستحق ثقته من أجل علاج مشكلاته الحقيقية. وهذا بدوره يحتاج إلي أن تعيد تلك الأحزاب ترتيب أوضاعها وتنبذ الخلافات وأن تلتحم برجل الشارع وتسعي إلي كسب ثقته, وأن تحدث اندماجات بين الأحزاب المتقاربة والمتماثلة إيديولوجيا, كأن تأتلف الأحزاب الليبرالية في حزب ليبرالي قوي له برامج محددة, وكذلك الأحزاب اليسارية والقومية وغيرها. وهذا في حد ذاته سوف يصحح الاعوجاج في الممارسة الحزبية الحالية والانشطار الواسع للأحزاب, التي تجاوزت السبعين حزبا لا يعرف عنها المواطن حتي أسماءها قبل أن يعرف برامجها, بحيث يكون لدينا ثلاثة أو أربعة أحزاب سياسية كبري, إسلامية ولبيرالية ويسارية, قادرة علي المنافسة علي السلطة. لا يمكن لأي تجربة ديمقراطية حقيقية أن تنجح إلا في وجود نظام حاكم قوي ومعارضة فعالة, وجوهر المشكلة الآن أن كلا الطرفين لا يمارس الديمقراطية والعمل السياسي بمفهومه الصحيح الذي يقود في النهاية إلي تعميق الممارسة الديمقراطية بعد الثورة, فالنظام الحاكم يتعامل وكأنه اللاعب الوحيد في الساحة تحت حجة الأغلبية الانتخابية دون أن يحاول تحقيق التوافق مع اللاعبين الآخرين من أجل المصلحة العامة, وفي المقابل فإن المعارضة تتعامل بمنطق المباراة الصفرية فإما أن تكون في الحكم وإما لا, وتنسي أن التفويض الشعبي, وليس إسقاط النظام, هو الوسيلة المشروعة والوحيدة للحكم وتغيير النظام, بل إنها تصر دائما علي أن تظل أسيرة في موقع رد الفعل وليس المبادر علي طرح الحلول والآليات لإحداث التغيير السياسي. وبالتالي بدلا من الرفض والمقاطعة, فعلي المعارضة أن تصر علي وجود ضمانات محلية ودولية لنزاهة الانتخابات وإذا لم تتحقق هذه الشروط قبل أو في أثناء العملية الانتخابية فإن من حقها في هذه الحالة أن تكشف خطايا النظام ولها المشروعية في اتخاذ كل الأساليب التي تؤدي إلي تغييره, وعلي النظام الحاكم أن يقدم بالفعل جميع الضمانات الملموسة للعملية الانتخابية المتمثلة في اشراف قضائي كامل ورقابة منظمات المجتمع المدني المحلية والدولية ووسائل الإعلام, ولذا فمن الأجدي للمعارضة في هذه المرحلة أن تركز علي سبل كسب ثقة المواطن ليصوت في مصلحتها. وفي ظل مرحلة انتقالية متعثرة وأوضاع اقتصادية متدهورة وحالة أمنية منفلتة فإن خيار الانتخابات ربما يكون أخف الأضرار للخروج من حالة العبث والجدل حول أيهما أولا الانتخابات أم الدستور أم الاقتصاد أم الأمن, وذلك بإعادة تشكيل الخريطة السياسية في مصر, خاصة أن الديمقراطية تصحح ذاتها بذاتها وأن الإنجاز الاقتصادي وحل مشكلات المواطن هو معيار الأقوي والأصلح في التنافس السياسي والوصول إلي السلطة وليس معيار الشرعية الدينية. الانتخابات البرلمانية قد تكون فرصة جيدة أمام المعارضة لإحداث التغيير السياسي إذا ما أحسنت وخططت لها جيدا, أما الاكتفاء بالمقاطعة فقط فإنه فعل سلبي وخطأ استراتيجي من شأنه ان يبقي الأوضاع علي ما هي عليه وفي المحصلة فإن مصر والديمقراطية هي الخاسرة.