نعم, ان ما حدث الآن من انتخابات للقيادات الجامعية يعد وبكل المقاييس حدثا تاريخيا غير مسبوق, حيث كان مبدأ التعيين لهذه القيادات, هو المعمول به منذ نشأة الجامعة في أوائل القرن الماضي, وعبر تطورها, كان يتم تعيين مدير الجامعة (رئيسها) بمرسوم ملكي قبل قيام ثورة يوليو عام 1952, وبقرار جمهوري بعد قيامها. أما عمداء الكليات فهم أكثر القيادات تعرضا للتخبط في شغل مناصبهم, فعندما صدر أول قانون منظم للجامعة بصفتها الرسمية عام 1925, كان لوزير المعارف حق تعيين العميد لأول مرة, فإذا خلا المنصب لأي سبب من الأسباب, فانه لابد أن يأخذ رأي مجلس الكلية عند تعيين عميد جديد لها, واستمر هذا الوضع حتي صدر القانون المنظم للجامعات عام 1950, الذي قضي علي هذا الشرط, وأعطي لوزير المعارف الحق المطلق في تعيين العميد, دون أخذ رأي مجلس الكلية, بحجة أنه أخذ الرأي, وما يترتب عليه من عمليات الترشيح والانتخابات هو مضيعة للموقف والجهد, ويثير الحزازات والحساسيات بين أعضاء هيئة التدريس. ولم يحدث جديد بعد قيام ثورة يوليو وصدور قانون 1956 المنظم للجامعات المصرية, اللهم إلا المزيد من التدخل فيها واعطاء وزير التربية والتعليم ليس فقط حق تعيين العميد وانما أيضا وكلاء الكلية, بناء علي ترشيح العميد, وموافقة رئيس الجامعة. وجاء القانون رقم 49 لسنة 1972, ليعطي أعضاء هيئة التدريس حق انتخاب العميد في الكليات التي بها أكثر من عشرة أساتذة, ولكنه وفي الوقت نفسه أعطي رئيس الجامعة, حق تعيين العميد من بين الثلاثة الذين حصلوا علي أكثر الأصوات, دون الالتزام بتعيين من اعلاهم أصواتا. وهذا يعني وببساطة شديدة وعلي حد تعبير شيخنا حامد عمار أن هذا القانون جعل من رئيس الجامعة السلطة والفصل في اتخاذ القرار, أو سيد قراره كما كان الحال بالنسبة لمجلس الشعب في عهد الفساد والافساد, لكن حدث بعد ذلك ما كان متوقعا من دكتاتورية وتسلط النظام السياسي, فبالرغم من كل المساويء التي ضربت الديمقراطية في مقتل وكرست السلطة والقهر, باعطاء رئيس الجامعة حق تعيين العميد من بين الثلاثة الذين حصلوا علي أكثر الأصوات, فانه حدث في أوائل تسعينيات القرن الماضي تعديل للقانون 49 لسنة 1972, يقضي بإلغاء انتخاب العميد, وتعيينه من قبل رئيس الجامعة, ومن قبل ومن بعد موافقة مباحث أمن الدولة ليس فقط لتعيين العميد وانما لكل القيادات الجامعية بمن فيهم رئيس الجامعة ونوابه, بل تعيين أعضاء هيئات التدريس ومعاونيهم. وهكذا أصبح مبدأ التعيين هو المهيمن المسيطر ليس فقط في الجامعات وانما في كل مؤسسات الدولة, تكريسا لثقافة الهيمنة والسيطرة, والاكراه وفرض الطاعة والالزام, وقتل أنبل ما في الإنسان حريته وارادته في اختيار قياداته ومن يتولون تنظيم أموره. بل من المضحكات المبكيات انه في عهد الفساد والافساد كانت المعايير في اختيار القيادات الجامعية, موغلة في الذاتية, وبعيدة تماما عن الموضوعية, ولا بأس من أن يكون من بين هذه المعايير وعلي حد تعبير الصحفي القدير لبيب السباعي في احدي كلماته الجريئة تشابه الاسماء بين من بيده اتخاذ قرار التعيين ومن يقوم بتعيينهم من هذه القيادات. ولعل من بين ما يستحق المراجعة: 1 الوضع القانوني للآليات المطروحة من قبل وزارة التعليم العالي, حيث يري أهل الاختصاص في هذا المجال, أنه من الواجب تعديل القانون المنظم للجامعات قبل إجراء هذه الانتخابات,. كما يري هؤلاء أن ما حدث من استفتاء لأعضاء هيئة التدريس وموافقتهم بنسبة 83% علي هذه الآليات, انما يعد أمرا استشاريا لا يرقي إلي مستوي النص القانوني مما يفتح الباب إلي الطعن عليها, وبالتالي تعطيل هذا الحدث غير المسبوق في جامعتنا المصرية. 2 كما أن هذه الآليات تعاني من عيوب واضحة تتعلق بتشكيل المجتمعات الانتخابية والتدخل في تشكيلها, مما أعطي الفرصة للوجوه القديمة للعودة مرة أخري لمناصبهم. 3 وأيضا هناك من الأمور ما يفرض المراجعة, وفي القلب منها اعطاء رئيس الجامعة حق اختيار نوابه, وعمداء الكلية واختيار وكلائه بالرغم من كل ما يحمله هذا التعيين من مخاطر, فمن المعروف أن من يقوم بالتعيين لا ينتظر ممن عينه إلا الطاعة والخضوع, علي حد المثل الشعبي أطعم الفم تستحي العين فمادام الفم مطعوما بالحظوة والقبول, فلابد من اخفاض الطرف واغماض العين عما يرتكب من نهب وسلب, ومن فساد وتجاوزات. باختصار ان اعطاء رئيس الجامعة حق اختيار نوابه, والعميد اختيار وكلائه تحت مبرر يختار الناس اللي يستريح معاهم فانه يعد مبررا خادعا ومزيفا, بل تفوح منه رائحة الذاتية والمصلحة الخاصة, لأنه وفي الغالب الأعم سيختار من هم علي هواه حتي ولو لم يكونوا علي مستوي المسئولية والكفاءة, والمحصلة تغليب الخاص علي العام, وارتفاع صوت الباطل, وابتار أهل الثقة علي أهل الخبرة, وغيرها من الآفات المدمرة للعلاقات النبيلة, لهذا ولغيره نري ضرورة مراجعة انتخابات القيادات الجامعية لتكون وبحق حدثا تاريخيا غير مسبوق يليق بالجامعة رمز حضارة الأمة وعنوان نهضتها وتقدمها وكفي هذا مبررا. المزيد من مقالات د. محمد سكران