تناولنا في المقال السابق الحرية والتحرر في التراث العربي الإسلامي, وكذلك في الفكر الغربي ونتناول في هذا المقال الثورة والحرية في الفكر الماركسي فرغم تحفظنا علي مواءمة التحليل الطبقي التقليدي لأحوال البلدان العربية, يبقي الفكر الماركسي بين أهم ينابيع فكر الثورة والتحرر. وتشمل أسباب الثورة الشيوعية عند ماركس: الاستغلال والاغتراب, الناجم عنهما الشعور بالظلم, الأزمات الاقتصادية, والتناقض بين قوي الإنتاج وعلاقات الإنتاج, وتفضي إلي قيام المجتمع الشيوعي الذي يكفل للأفراد التحقق الكامل لذواتهم, بما يحقق في الوقت ذاته صالح الجماعة, وتقوم عملية الثورة علي محوري تبلور الوعي الطبقي ومختلف أشكال الصراع الطبقي. وتشير كتابات ماركس إلي أن اعتبار الدولة ظالمة يمثل بداية طريق زوالها. ويساعد علي هذا المصير المحتوم أن فكرة الحكم الديمقراطي تكتسب قوة هائلة تستعصي علي المقاومة حتي بين الطبقات الحاكمة, وهكذا تمثل فكرة العدالة في ارتباطها بالتوق إلي الحكم الصالح, قوة دافعة للثوار كما هي سبب لتدهور الروح المعنوية للحكام. وتمثلت ضرورة الثورة لدي ماركس في استحالة التخلص من الطبقة الحاكمة بأي طريقة أخري من ناحية, وفي أن الطبقة الثائرة تؤهل نفسها من خلال الثورة للخلاص من مساوئ إرث الماضي ولتأهيل نفسها لتشييد المجتمع الجديد. ويتطلب بزوغ الثورة أن يقتنص العمال وحلفاؤهم, السلطة السياسية, الأمر الذي يتطلب بدوره أن يتوافر لدي العمال الحافز للإمساك بالسلطة وألا تستطيع الطبقة الحاكمة قمعهم بالقوة. وتأتي ظروف مواتية للثورة مثلا عند اقتران هزيمة عسكرية بمصاعب اقتصادية شديدة بما يفضي إلي انهيار الإرادة والقدرة علي المقاومة في الطبقات الحاكمة.كما يمكن أن تلعب الحروب الثورية التحررية دورا مهما في قيام الثورة. إلا أن الثورة تنطوي علي تكاليف وآلام خاصة في مراحلها الأولي ومن ثم تقوم فقط عندما يسود الاحباط ويعم اليأس من الوضع الراهن. وعليه فإن مساوئ الرأسمالية تولد القوة الحافزة علي الثورة عندما تترافق مع الفاقة والتعاسة. بحيث يصح القول بان العمال لن يخسروا إلا أغلالهم. لكن يمكن أن يؤدي الخطأ في التقدير إلي ثورة مبتسرة قوامها محاولة الاستيلاء علي السلطة قبل أن تنضج الظروف الموضوعية للثورة. والخطر الثاني الذي يتهدد الثورة الشيوعية هو الإجهاض من خلال إصلاحات فوقية تتوخي نزع فتيل الثورة. العنف ومقاومة القهر والاستباحة: نقطة البدء عند فرانتز فانون هي أن القضاء علي الاستعمار ظاهرة عنيفة بامتياز ولا يمكن أن تجري خلسة فالنضال ضد الاستعمال ينطوي علي تغيير اساسي في الأفراد المنضوين فيه, لكن قانون ينتهي بأن تقدم الانسانية يتطلب الإبداع والابتكار لنقل الشرية إلي مصاف أوفر إنسانية فيما بعد الحضارة الغربية المهيمنة. وليس التحدي أقل من ابتداع مفاهيم جديدة بل وإنسان جديد. وهكذا برغم أن العنف عند فانون مكون لازم للنضال من أجل عالم إنساني فليس العنف هو الذي يقيم مجتمعا مخلصا من الاستغلال, فالعنف ذاته ينتقص من الإنسانية ويعطل عزيمة المقهورين. الأهم هو الفعل النضالي الذي يقوم به المقهورون لإضفاء الإنسانية علي أوضاع تهدرها. وتتيح اسهامات الفيلسوف اللاتيني إجناسيو إلاكوريا استبصارات مهمة في طبيعة العنف وجدل القهر التحرر. ونقطة البدء عنده هي إذا كانت المطالب العادلة للمقهورين تقابل بالعنف الزائد من القاهريين ليس فقط تكرارا لكن عبر أجيال متعاقبة فماذا يبقي للمقهورين من خيار إلا اللجوء للعنف حتي المسلح. ويفرق إلاكوريا بين ثلاثة أصناف من العنف: البنيوي المؤسسي والقمعي الارهابي والثوري, في الأول تتشكل بنية النظام المجتمعي ومؤسساته بحيث تفرض علي الغالبية الساحقة من السكان العيش في فاقة يائسة تهدد حياتهم ذاتها طوال الوقت. وهذا هو أشد أنواع العنف فظاظة والإنسانية لأنه متجذر في البنية المجتمعية ولايسمح بالفكاك منه من دون إصلاح جذري للبني المجتمعية لا يتأتي هينا. ويقوم الصنف الثاني علي القمع المنهجي والمستمر لغالبية الناس, في البداية تستعمل وسائل تبدو في الظاهر غير عنيفة في مجال صناعة الايديولوجيا مثل المؤسسات الدينية والتعليمية ووسائل الإعلام لضمان وداعة الناس لكن عندما تظهر قلة فعالية هذا الصنف من العنف الرفيق لا تتورع الاقلية الممسكة بمقاليد القوة عن اللجوء لأشكال من القمع أشد عنفا بحجة حماية الأمن القومي كواجهة خداعة لأمن البني المجتمعية الجائزة وأجهزتها السياسية القمعية. هذان الصنفان من العنف: البنيوي المؤسسي والقمعي الإرهابي يستفزان ولا غرابة الصنف الثالث أي العنف الثوري حين يصبح العنف الثوري الاستجابة الحتمية لصنفي العنف الأشد منه ضراوة ذلك العنف المتمثل في الصنفين الأول والثاني والذي يحول دون أي وسيلة سلمية وفعالة للقضاء علي القهر والخلل البنيوي الذي ينتج الفاقة والتعاسة بل ويهدد الحياة ذاتها. ومع ذلك فإن إلاكوريا كان يري أن العنف شر وإن كانت هناك درجات من الشر وأن أصنافا من العنف يمكن أن تعد مشروعة بل حتي مطلوبة كوسائل لمقاومة صنوف أشد ضراوة من العنف. ومن ثم فإن المطالبة بنبذ العنف والتمسك بالحلول السلمية يتعين أن تركز علي العنف الأولي أي المنشيء لصنوف العنف الاخري, فالمطالبة بالسلم يجب أن تقع علي المطالبة بالقضاء علي العنفين البنيوي والقمعي وليس علي العنف الثوري الذي الذي يفضي الصنفان الأولان إليه حتما. هكذا فقط يمكن أن تتفادي المطالبة بنبذ العنف أن تشكل ستارا لتدويم العنفين البنيوي والقمعي من خلال الابقاء علي الوضع الراهن أيا كان جوره. فتقدم البشرية يتطلب أن يصبح نصيبا متزايدا من الناس وصولا إلي الجميع نهاية حرا ليتحقق ذات كل منهم وصالح مجتمعه, ومن ثم فإن تقدم البشرية يعني في الاساس تحرير البشر وهي المسئولية الاساس لبني البشر جميعا تجاه الانسانية وهذه هي الطيبة الأعلي عند الاكوريا حتي أعلي من السلم ونبذ العنف. وألا يتعين أن يكون هذا موقف البشر كافة؟ لاهوت التحرير: يشكل لاهوت التحرير تجربة إنسانية ثرية وظفت الدين لتحرير المقهورين في أمريكا اللاتينية ويمكن استدعاء عناصر من هذا التزاوج المبدع في ضوء صعود دور الحركات الإسلامية في مقاومة الاستبداد والاستباحة في الوطن العربي مع التحفظ الواجب مبدئيا علي أنه ليس هناك كهانة ولا كنيسة في الإسلام لاسيما في المذهب السني الأكثر شيوعا في المنطقة العربية. لكن حتي في السياق المسيحي كان مصطلح لاهوت يقتصر علي النظريات الفلسفية المتصلة بطبيعة الله حتي قامت علي أيدي رجال دين كاثوليك من السود في الولاياتالمتحدة ثم في أمريكا اللاتينية ثورة في المفاهيم وضعت الإنسان قبل النص الديني مستهدفة التحرر من الفقر والقهر وأدت نهاية خاصة مع تجاوز منابعه الأمريكية إلي إفريقيا وآسيا إلي إطلاق مصطلح لاهوت علي كل ما يتصل بالشأن الديني عامة بحيث صار أقرب إلي الفقه في الإسلام ويتعدي المسيحية فصار مصطلح لاهوت التحرير علي الخصوص يعني البعد الديني لقضايا حرية الإنسان والعدالة. ودعا لاهوتيو التحرير إلي مسيرة للتحرر من القهر والظلم تقودها الأديان للناس عامة, هنا الحرية لا تقوم علي رفض الدين بل علي التحالف البناء معه. وحيث نري أن تأسيس النهضة في الوطن العربي يتطلب حفز وإثابة الاجتهاد الفقهي المستنير الكفيل بإقامة صلح متين بين المقاصد الكلية للشريعة الإسلامية التي لا تخرج عن القيم الإنسانية العليا: الحرية والعدل والمساواة من جانب ومقومات النهضة من اكتساب المعرفة والحرية والحكم الصالح من جانب ثان. وحيث إن لا كهنوت في الإسلام فإنه يجمل أن يتجاوز الاجتهاد الفقهي في الوطن العربي إسار المؤسسات الدينية القائمة وشخوصها إلي أن يصبح حقا واجبا علي كل مسلم عالم وقادر علي التفقه في شئون دينه وهو عين ما ذهب إليه الإمام محمد عبده منذ عقود خلت. لكل مسلم أن يفهم عن الله من كتاب الله وعن رسوله من كلام رسوله بدون توسيط أحد من سلف ولا خلف وإنما يجب عليه قبل ذلك أن يحصل من سبله ما يؤهله للفهم كقواعد اللغة العربية وآدابها واساليبها وأحوال العرب خاصة في زمان البعثة فليس في الإسلام ما يسمي عند قوم بالسلطة الدينية بوجه من الوجوه. المزيد من مقالات د . نادر فرجانى