أسعار الأسماك بكفر الشيخ الجمعة 3 أكتوبر 2025    مصر جاهزة لاسقبال مياه الفيضان وتحذيرات لأهالى طرح النهر بالمنوفية.. فيديو    وزير قطاع الأعمال العام يشهد تكريم الشركات المصرية المشاركة في صيانة "كيما"    سعر بنزين 92 اليوم الجمعة 3 أكتوبر 2025 فى محطات الوقود    وزيرة داخلية بريطانيا تنتقد احتجاجات دعم غزة بعد هجوم مانشستر وتصفه بالمشين    الاستخبارات الدنماركية: "خطر كبير" يستهدف القوات المسلحة    الأمم المتحدة: الحديث عن منطقة آمنة في جنوب غزة مهزلة    قائمة الخطيب تتقدم رسميا لخوض انتخابات النادى الأهلى    محمد زيدان يتعرض لأزمة صحية ونقله لأحد المستشفيات    سيف الدرع نجم مصري يحلق بكرة اليد فى العالمية بقميص برشلونة    وزارة النقل تناشد المواطنين المشاركة بالتوعية للحفاظ على مرفق السكك الحديدية    الداخلية تواصل ضرباتها ضد المخالفات بضبط 4124 قضية كهرباء و1429 بالمواصلات    أنا اللى هحلق الأول.. جريمة قتل مأساوية داخل محل حلاقة فى أكتوبر    ضبط أحد الأشخاص و3 سيدات لقيامهم بممارسة الأعمال المنافية للآداب بمقابل مالي بالإسكندرية    سامح حسين: فوجئت بفكرة فيلم استنساخ واتمنيت منوصلش للزمن ده    "فيها إيه يعنى" يحقق انطلاقة قوية بأكثر من 5 ملايين جنيه فى يومين فقط    اليوم العالمى للابتسامة.. 3 أبراج البسمة مش بتفارق وشهم أبرزهم الجوزاء    حفلة الإنس والشياطين: ورأيت كاتبًا يتسكع فى فن القصة القصيرة    تكريم 700 حافظ لكتاب الله من بينهم 24 خاتم قاموا بتسميعه فى 12 ساعة بقرية شطورة    حكم البيع الإلكترونى بعد الأذان لصلاة الجمعة.. الإفتاء تجيب    نجاح أول جراحة قلب مفتوح داخل مستشفى النصر التخصصى ببورسعيد    «استشاري حساسية» يحذر أجهزة الجيم ملوثة 74 مرة أكتر من الحمامات    7 قرارات جمهورية مهمة وتكليفات رئاسية حاسمة للحكومة ورسائل قوية للمصريين    «نظام اللعب السبب».. رد مفاجئ من سلوت بعد غياب محمد صلاح عن التسجيل    «العمل» تحرر 6185 محضرًا بتراخيص عمل الأجانب خلال 22 يومًا    مخرج «استنساخ»: سامح حسين مغامر واعتبره رمزًا تأثرت به كثيرًا    انتخابات مجلس النواب.. أسماء محافظات المرحلة الثانية    السد العالي والناس الواطية!    جامعة قناة السويس تشارك في معرض تراثنا الدولي (صور)    محافظ الإسكندرية يعلن الانتهاء من رصف وإعادة الشيء لأصله في 16 شارعاً (صور)    استشاري تغذية علاجية: الأضرار المحتملة من اللبن تنحصر في حالتين فقط    فوائد السمك للطفل الرضيع وشروط تقديمه    مواعيد مباريات الجمعة 3 أكتوبر.. البنك الأهلي ضد المصري والدوري الإنجليزي    الصين تدعو لضمان وصول المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة    الزمالك يختتم تدريباته اليوم استعدادًا لمواجهة غزل المحلة    بريطانيا..مقتل 2 وإصابة 4 في هجوم دهس وطعن خارج كنيس يهودي    القبض على قاتل شاب بقرية ميت كنانة في القليوبية إثر خلاف مالي    إسرائيل تستهدف منظومة دفاعية لحزب الله في جنوب لبنان    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الجمعة 3-10-2025 في محافظة قنا    تصريح صادم من سماح أنور عن المخرجة كاملة أبو ذكري    الفيضان قادم.. والحكومة تناشد الأهالي بإخلاء هذه المناطق فورا    ترامب يستغل الإغلاق الحكومي لشن عمليات فصل وعقاب سياسي    ليلى علوي تنهار من البكاء خلال مهرجان الإسكندرية.. اعرف التفاصيل    استشهاد شاب فلسطيني برصاص الاحتلال الإسرائيلي غرب رام الله    مواقيت الصلاة اليوم وموعد خطبة الجمعة 3-10-2025 في بني سويف    «كوكا حطه في جيبه».. أحمد بلال ينتقد بيزيرا بعد مباراة القمة (فيديو)    الشاعر مصطفى حدوتة بعد ترشح أغنيته للجرامي: حدث تاريخي.. أول ترشيح مصري منذ 20 عامًا    سورة الكهف يوم الجمعة: نور وطمأنينة وحماية من فتنة الدجال    بالصور.. مصرع طفلة وإصابة سيدتين في انهيار سقف منزل بالإسكندرية    مختار نوح: يجب محاسبة محمد حسان على دعواته للجهاد في سوريا    اللجنة النقابية تكشف حقيقة بيان الصفحة الرسمية بشأن تطبيق الحد الأدنى للأجور    رابط التقييمات الأسبوعية 2025/2026 على موقع وزارة التربية والتعليم (اعرف التفاصيل)    سعر التفاح والموز والفاكهة في الأسواق اليوم الجمعة 3 أكتوبر 2025    «أفضل صفقة».. باسم مرسي يتغزل في مهاجم الزمالك    نائب محافظ سوهاج يكرم 700 طالب و24 حافظًا للقرآن الكريم بشطورة| فيديو وصور    حزب الإصلاح والنهضة يدشّن حملته الانتخابية للنواب 2025 باستعراض استراتيجيته الدعائية والتنظيمية    أتربة عالقة في الأجواء .. الأرصاد تكشف حالة الطقس اليوم الجمعة 3 أكتوبر 2025    «هيدوب في بوقك».. طريقة سهلة لعمل الليمون المخلل في البيت    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أنيس منصور‏..‏ ذلك الإنسان
نشر في الأهرام اليومي يوم 28 - 10 - 2011

شأن البحارة الذين يستشعرون الخطر ويصارعون الموت عندما يشتد التيار ويتعالي الموج ساعة الخطر‏,‏ فيقومون بوضع أسرارهم في زجاجة‏..‏ فماهي رسائل البحر التي كتبها أنيس منصور حينما استشعر النهاية. فهو دائما كان يردد عبارة شكسبير الخالدة لا يوجد ملك أمام حاشيته, والمعني أن كل إنسان مهما علا شأنه وفرضت عليه قيود لابد أن يتحرر منها أمام رجاله الأقربين.
فعلاقته بنبيل عثمان سكرتيره الخاص استمرت خمسة وأربعين عاما. كان خلالها موضع أسراره وسكرتيره الأمين الذي ينتمي إلي عهد التقاليد المرعية بين الاقتراب من صاحب المنصب إنسانيا والابتعاد بالمسافة التي لا تسمح بتجاوز مهام المنصب, وربما كان الوحيد في مصر القادر علي قراءة خط الكاتب الكبير وفك طلاسمه. أما حارساه الخاصان فكان لهما شأن خاصا.. حيث كان يعتبر شبل وأشرف من أفراد أسرته. يحسن معاملتهما ويتبسط معهما في مودة وأبوة, ويرصد هذا الحوار اللحظات الأخيرة في عمر الأستاذ, ويؤكد المقربون الثلاثة أنه لم يكن يهدف إلا الوضوح.. ظل أسلوبه في الصحافة والحياة متسما بالنضارة والحيوية المستمدة من شخصيته. رصدوا أبلغ لحظات الصدق فهو القائل في إحدي قصصه أنا اليوم علي فراش الموت والميت لا يكذب, لم تكن حياته بالطبع صوابا بلا خطأ, فهو لا يحب المزايدة والعنتريات, لكنه كان يختلط بالمحامين والشهود والمتهمين ثم يصوغ حيثياته في العلن علي مسمع من الجميع.غالبه القدر فهو الرحالة الذي جاب الآفاق بفكره وسافر إلي معظم دول العالم ففرضت عليه الإقامة الجبرية في المستشفي ومنعت عنه الزيارة, فهو شأن كل أصحاب الهامات الكبيرة يحملون علي كواهلهم وفي رءوسهم طاقات عقلية يشق علي أجسادهم النحيلة تحملها.. كان آخر حوار له في ملحق الجمعة في رمضان الماضي نصحنا بعدم الانقياد للأحداث. بل صنعها, لكنه لم يمد ذراعه لكي يبعد الموت بالمقاومة والعلاج المستمر. كان يقول لقد قضي العقاد الطبيب علي العقاد الأديب, وما أشبهه باستاذه ومعظم الكبار الذين يأمرون بالبر وينسون أنفسهم. أستاذي العزيز قلت إن الذين صنعوا التاريخ لم يتسع وقتهم لكتابته لكنك كتبت الفصل الأخير بنفس القدر من الإمتاع والمؤانسة, وكشفت لنا عن المسافة الفاصلة بين حياة الكاتب وأعماله, وكأنك كنت تستمع لهاتف من هواتف الغيب ويبقي من المرء الأحاديث والذكر.
في إحدي المرات شاكست الأستاذ لأنه كان يتندر من أن العقاد كان يحدثهم في صالونه عن أحدث الاكتشافات العلمية في الوقت الذي كان يعلو فيه صوت وابور الجاز في مطبخه وقلت له: إن الآلة الكاتبة العتيقة التي يستخدمها سكرتيره الخاص تشبه وابور الجاز قياسا علي الكمبيوتر ومشتقاته من الأجهزة, فضحك هو والأستاذ نبيل عتمان وقال لي: المهم الهدف والجوهر ومحتوي المقال.. هذا ما يصل للقارئ.. والأمر كذلك بالنسبة لنبيل فهو إنسان دمث الخلق يتصف بالأمانة والدقة في عمله.. والصدق وأمنت علي كلام الأستاذ فنبيل عتمان بالفعل له من اسمه نصيب فهو مستودع أسراره.. ذكرته بهذه الواقعة فابتسم وسألته عن بداية علاقته بالأستاذ فأجاب: عملت معه منذ عام1966 حيث كنت أعمل في قسم الشيكات بحسابات أخبار اليوم وكان رئيسا لتحرير مجلة آخر ساعة وكان مفترض أن أعمل معه بصفة مؤقتة لمدة أسبوعين فقط لكن العلاقة استمرت ما يقرب من خمسة وأربعين عاما.. كنت منذ صغري مأخوذا بشخصيته.. أتعمد مشاهدته حين يدخل بهو الجريدة وأصعد معه في الأسانسير وفي البداية صدمني خطه حين أعطاني مقالاته مواقف لمدة أسبوع لكتابتها وكانت تنشر في الأخبار في العمود المقابل لعمود مصطفي أمين فاكتشف أن الحروف عبارة عن طلاسم وكلها مجردة من النقاط والهمزات وأحيانا تكون متشابكة لكن حبي لشخصه وإعجابي بكتابته دفعاني لفك شفرة كل حرف. وعلمت في مرحلة مبكرة من عملي معه أنه يكتب بسرعة فائقة وينزلق قلمه علي الورق كالريح إذا راودته فكرة ما لأنه يخشي انفلاتها وكان يردد أمامي عبارة الأفكار شوارد أي تتسرب وتلاشي إذا لم يقم الإنسان بتسجيلها وفي بعض الأحيان كان لا يستطيع قراءة كلمة بخطه عند المراجعة فيستعيض عنها بكلمة مرادفة.. وقد أعتدت أن أطلب منه مقالات قبل أن أستنفذ الرصيد المطلوب.. لأنني كنت أتحسب الظروف الطارئة غير المتوقعة كالمرض أو السفر المفاجئ وأحيانا كانت تخونه الذاكرة في اسم شاعر فيترك مكانه شاغرا ويطلبني في التليفون لاستكمال أي شئ مطلوب الاستفسار عنه من طرفي أو من طرفه ثم يغلق الخط علي الفور فهو أسرع من يغلق التليفون.. كانت أجواء العمل بأخبار اليوم تتسم بالجلسات الفنية وكان مكتبه دائما عامرا بالفنانين والمطربين الذين كانوا يحرصون علي إسماعه ألحانهم وكلماتهم بدءا من عبد الحليم وسعاد حسني حتي كبار الأسماء اللامعة في مجال الفن.. كان يأتي إلي مكتبه بآخر ساعة مرتين يوميا قبل أن تستفحل الأزمة المرورية من التاسعة صباحا حتي الثالثة ظهرا ومن السادسة حتي التاسعة والنصف مساء كان قليل الكلام بطبعه لا يبيح بأسراره الشخصية أبدا لكنه يضحك في جلساته ويطلق النكات.. أصدقاؤه الحقيقيون لا يتعدون أصابع اليد.. ومفتاح شخصيته علي المستوي الاجتماعي كان يتجلي في حرصه علي ترك مسافة ما بينه وبين الناس مهما وصلت العلاقة إلي أقصي درجات الأريحية.. ومن يتجاوز هذه المسافة كان يسقطه من حياته ويلغيه ويخبرني بعدم السماح له بالدخول مرة أخري والتعلل بأي عذر.. لديه فراسة غير عادية وحدس صادق فهو يستطيع فهم الإنسان الذي أمامه دون أن ينطق بكلمة واحدة وكانت قرون استشعاره لا تخطئ أبدا فيتنبأ لبعض الصحفيين بالتألق ويقول عن البعض الآخر إنهم فاشلون.. ذهبت معه إلي المقابر في أرض الجولف لأول مرة منذ عشرين عاما وشاهدته وهو يبكي كالطفل الصغير علي والدته وكان يقرأ لها القرآن ويحرص علي زيارة قبرها كل خميس.. وفي هذه المقبرة دفنت والدته وشقيقه عبد العزيز وشقيقته إخلاص التي كانت تعمل مرشدة سياحية( لغة فرنسية) وبسؤالي عن تشخيص مرض الأستاذ يجيب الأستاذ نبيل وفقا للتقرير الطبي الصادر عن المستشفي أن الكاتب الكبير دخل المستشفي يوم 14-10-2011وكان يعاني من التهابات رئوية حادة واضطراب بوظائف الكلي وزيادة في سيولة الدم فوضع علي جهاز التنفس الصناعي منذ 18-10-2011ونتيجة لحرصه علي استمرار كتابة عموده مواقف ومطالبتي له بالمزيد فقد توافر لدي مخزون أفادني كثيرا عندما مرض بشدة في الفترة الأخيرة.. كان يزور المنصورة كثيرا ويمكث لمدة يومين ويحرص علي زيارة شوارعها متفقدا أطلالها القديمة التي عايشها في صباه بعد مرور هذه السنين.. فهو حساس للغاية دموعه حاضرة وأخلاقه رفيعة لا يغلط في إنسان أبدا.. متواضع إلي حد أدهشني البعض ولكنه لديه قدر من الكبرياء والاعتزاز لا تخطئهما العين.. ابتسامته كانت من أجمل فضائله لكل المحيطين به ودائما يشعر بالامتنان إزاء زوجته فكانت تقوم بتهيئة المناخ العام له لكي يبدع ويكتب فهي حبه الأول والأخير.. عمله كان أهم شئ في حياته ويستأثر بمعظم وقته.. سألته يوما عن الحب وهو أكثر من كتب عنه فقال لي عبارة استشعر معناها الآن إلي أقصي درجة الحب به جانب كبير من الاعتياد وهو يصل إلي مداه إذا اختلط بالعادات.. وشرح لي أن العادة تطبع الإنسان وتستوقفه والحب هنا يصبح جزءا من كيان الإنسان إذا فقده فقد جزءا من نفسه وهذا ما أشعر به الآن تماما بعد وفاته.. رحمه الله فقد استثمر كل لحظات حياته وحولها لوقود فني وأدبي فكتب عن أحزانه وآلامه والأهل والأصدقاء والسياسة.. كان دائما علي أهبة السفر والترحال بعقله قبل جسده وكان لديه ما يقرب من خمسين جوازا للسفر.. حاسة الشم لديه كانت قوية جدا.. فهو مرهف الإحساس بصفة عامة.. وفي إحدي زياراته لملجأ أيتام تعلق بيديه طفل صغير ولم يتركه بدوره وحين علم أن اللقطاء يقيدون في شهادة الميلاد بدون اسم الأب وفي أماكن تواجدهم( تحت الكوبري مثلا) سعي لتغيير اللوائح بكافة الطرق وكان سعيدا للغاية بهذا الإنجاز الإنساني الذي سيحسب له بإذن الله في ميزان حسناته.. كان قريبا من المواطن العادي وكان عشقه للوضوح من أجله وظل مؤمنا بأن رجل الشارع لديه حس صادق بفائدة الثقافة أكثر من المثقفين لأنه يبحث عن كل ما هو واضح ومفيد وهذا هو جوهر الثقافة من وجهة نظره وبعد أن انصرف المنظرين والمتفذلكين عن عموم الناس كان يهتم برسائل القراء ولا يستهين بالنقد أو الانطباعات ودائما كان يقول لي القارئ علي صواب دائما شأن الزبون تماما.. وكثيرا ما كتب عن أشخاص يرسلون إليه أعمالهم ولم يشاهدهم في حياته بينما يتعمد عدم الكتابة عن شخصيات معروفة إذا لم يكن العمل يستهويه أو شعر بإلحاح من قبل صاحبه.. تركته يوم الخميس بصحة جيدة وشعرت بنظرات الرضا في عينيه وأنا اخبره عمن سألوا عنه لأن الزيارة أصبحت ممنوعة.. رحمه الله كان يحب سورة الرحمن وقد قرأت علي قبره أثناء مراسم الدفن.. أما نعشه فكان يسير بسرعة ذكرتني بخطواته السريعة حينما عاصرت عنفوانه وأسأل الأستاذ نبيل عتمان.. ماذا تعلمت من هذا الرجل العظيم ؟ أجاب: أشياء عديدة فقد عملت معه لمدة خمسة وأربعين عاما تثقفت من خلال كل ما كتبت.. وتعلمت منه ثقافة حياتية لا توجد في بطون الكتب.. وعرفت كيف وصل لهذه المكانة التي تبوأها طوال هذه السنين.. والسبب أنه لم ينزلق يوما إلي أية معركة تستنفذ طاقته جزافا فكان لا يرد علي مهاجميه ويعمل فقط.. ولكن آخر معارك العمر كانت مع المرض واستسلم فيها أيضا لقضاء الله وقدره.. رحمه الله بقدر ما أسعد الملايين ويقيني أن مصر ستشعر بفقدانه وستتضاعف عظمته كلما مر الزمان.
محمد شبل كان يعمل معه منتدبا من الحراسات الخاصة بوزارة الداخلية منذ خمسة عشر عاما وأشرف طايع منذ أحد عشر عاما ويستهل الأخير حديثه قائلا: كل منا كان يعمل معه بالتناوب يوما بعد يوم.. وبمرور السنين ارتبطنا به للغاية وكان يعتبرنا من أفراد الأسرة فهو إنسان رائع من النادر أن يتكرر فأنا صعيديا وكنت سريع الانفعال.. فتعلمت منه التأني في الغضب ومراجعة النفس.. وأسأل شبل عن اللحظات الأخيرة لأنه كان معه وقت حدوث الوفاة فيقول: ورديتي معه كانت تبدأ بالمستشفي من الثامنة صباحا حتي الثامنة مساء وكان عبده الطباخ يبيت معه ليلا وفجر الجمعة منذ الساعة الثالثة صباحا طلب من عبده الاتصال بي لكي أحضر إلي المستشفي فتلكأ عبده في تنفيذ الطلب دون أن يشعره لكي أخذ قسطا أكبر من النوم.. وفي الخامسة والنصف صباحا طلبني.. فأخبرته أنني سآتي علي الفور.. كان وجهه هادئا وكان في كامل وعيه وأنبوب التنفس الصناعي في فمه فجلست بجواره وبدأت القراءة في المصحف وبدأت بسورة الكهف لعلمي بفضل قراءتها يوم الجمعة ثم سورة ياسين وأخيرا سورة مريم.. وكان من عادته منذ أن اشتد عليه المرض أن يمسك بيدي أنا أو شبل وبمجرد أن بدأت القراءة شعرت أنه أكثر سكينة وهدوءا وظهر الارتياح علي قسماته وابتسم ابتسامة جميلة ثم أغمض عيناه واستسلم للنوم الذي جفاه طوال الليل وبعد مرور نصف ساعة بدأ جهاز النبض يسجل انخفاضا بمؤشرات مرتفعة.. فهلعت إلي التليفون وطلبت الطبيب المعالج وجاء د. جعفر رجب وطلبا مني الخروج من الغرفة ولم تكد تمر ثوان وكان قضاء الله نافذا.. رحمه الله لم يكن يرغب في الذهاب إلي المستشفي منذ أن اعتلت صحته وحدث ذلك تدريجيا فمنذ عدة سنوات سقط في باريس علي الأرض وانفجرت إحدي الكليتين إضافة إلي شكواه من متاعب العمود الفقري وكان يحقن علاجيا في باريس ولا يخبر زوجته خوفا عليها من القلق علي صحته لأنها كانت أيضا مريضة فيقول لها: أنه ذاهب للسعودية مثلا لحضور مناسبة أو مؤتمر.. يضيف أشرف: حين بدأت المتاعب تظهر علي أحباله الصوتية وبدأ صوته يضعف كثيرا لم نكن نسمع جيدا إلا إذا اقتربنا منه.. وجاء طبيب التخاطب ولقنه بعض العبارات التي كان يجب أن يتمرن عليها يوميا ما لا يقل عن ثلاث مرات لكنه لم يكن لديه صبرا وكنا نضحك معه علي هذه الكلمات وهو أولنا ويقول:( اسي يسي) كانت ثقته تامة ولأقصي حد بدكتور جعفر رجب والذي حاول المستحيل معه لكي يذهب إلي المستشفي وكان الأستاذ يرفض رفضا قاطعا.. ربما كان يستشعر قرب النهاية ويريد أن يموت في بيته ويستكمل شبل الحديث قائلا: حين جاءت سيارة الإسعاف يوم دخوله المستشفي قال لي في غرفة نومه: أنها النهاية.. أنا حموت يوم الأربعاء قبل وفاته بثمانية وأربعين ساعة طلب مني إحضار ورقة وقلم وكتب كلمة سجن وكانت آخر كلمة يكتبها.. فحاولت أن أعرف ماذا يعني بها فهز رأسه وأشار بعينيه بصورة شبه دائرية إشارة للمكان وللغرفة ويوضح أشرف هذه الكلمة الأخيرة بصورة أكبر قائلا: حينما وضع علي جهاز التنفس الصناعي وضعوا شريطا لاصقا علي فمه وكان يحاول نزعه فاضطروا لربط يديه وكان ينظر إلي ويستحلفني بعينيه أن أفك هذا الرباط وكنت أكاد أبكي وأنا أقول له: لم أرفض لك طلبا ولكنني لا أستطيع وقلبي يكاد يتمزق من هول الموقف لعن الله المرض وتنساب دمعة من عين أشرف.. ويحاول شبل أن يعيدنا لجوهر هذا الإنسان النبيل الذي كان يتبسط معهم في الطعام والحديث ويشاركهما الهموم وفي أحلك لحظات حياته كان هو الذي يداعبهم ويضيف شبل: وهو في المستشفي كان يطلب مني الاتصال ببعض الشخصيات.. وكأنه يريد أن يودعهم ولم يكن صوته مسموعا والطرف الآخر لم يكن يسمع بوضوح.. وكثيرا ما كان يقول لي ونحن في المستشفي يللا نروح وحين أصبت بالتهاب في اللوز طلب مني أن أنام علي السرير المجاور له.. منذ عام تقريبا كان يفاجئنا ويستدعينا لكي نتصور معه ويقول صور قبل الوفاة ونرد عليه أطال الله عمرك لم يكن يحب النكد وحين كان بكامل صحته يشاهد المحطات الكوميدية والأفلام العلمية وكان حريصا جدا في مواعديه.. إذا ذهبنا إلي مكان ما قبل الموعد المحدد.. يطلب منا اللف بالسيارة بعض الوقت لكيلا يفاجئ الضيف بقدومنا المبكر ولو خمس دقائق.. وكنا لا نغيب عن فكره إذا دعي إلي مأدبة طعام ويخبرهم بوجود حراسه معه خاصة في رمضان. وأسألهما: متي انقطع عن متابعة الأخبار ؟
أجاب أشرف: حين تدهورت صحته في الآونة الأخيرة كنا نخبره بالأحداث إذا كان هناك ما يستحق وعندما أخبرته بنبأ اغتيال القذافي اندهش وأشاح بيده وشعرت أن لديه تعليقا هاما علي هذا الخبر يود الإفصاح عنه وكان يقول عن بشار الأسد إنه( سفاح) ويوم الأربعاء حين أخبرته بفوز الزمالك علي المحلة رفع يده وهي موصولة بأنبوبة الأكسجين وصافحني وابتسم بالرغم من أنه أهلاوي.. كان مرتبطا بكلبه ريكو ويقول ساخرا: ربما كان الوحيد الذي سيحزن علي موتي بصدق ثم يبتسم ويداعبه.. ويوم السبت الماضي حين ذهبت إلي المنزل بمجرد أن شاهدني الكلب أخذ يقفز فوق أكتافي بصورة عجيبة لم يفعلها من قبل وكأنه يريد التأكد من حدسه وهل توفي صاحبه بالفعل وسبحان الله بمجرد أن ربت عليه بحنان بالرغم من عدم حبي للاقتراب من الكلاب إلا أنه شعر بالهدوء واستسلم للقضاء والقدر.. وأود الإشادة بدور الأستاذ محمد عبد القدوس فهو أول من زاره بالمستشفي صبيحة يوم السبت وحين منعت عنه الزيارة كان دائم السؤال ويوم وفاته وقف معنا في تجهيزات الدفن.. بل إنه دفنه بيده وكان اسبقنا جميعا.. فقد الأستاذ في الآونة الأخيرة شهيته عن الطعام نتيجة لكثرة الأدوية لكنه لم يفقد أبدا إيمانه بالعلم وفعل الخير حتي الرمق الأخير ويلتقط شبل أطراف الحديث: كان يحرص علي إرسال مساعدات شهرية لبعض معارفه بالقاهرة والمنصورة وكان علي صلة ببعض أفراد عائلته ولم ينقطع عنهم كما يشاع فوالدته رحمها الله السيدة عديلة الباز من عائلة الباز بالمنصورة وله أقارب يصلونه.. لكنه كان حريصا كشخصية عامة علي عدم وجود استثناءات تمس اسمه الذي حفره بالعرق والجهد والأرق عبر هذه السنين.. كان يقوم بعمل أرشيفه الصحفي بنفسه ولديه ملفات معنونة يعود إليها من آن لآخر.. كان متفائلا منشرحا بثورة يناير في البداية ولكن عندما كثرت الاعتصامات والمليونيات ومهاجمة المجلس العسكري بدأ يشعر بالقلق من انحراف مسارها وأسألها عن كتابه عن الرئيس السادات والذي يعد بمثابة وثيقة تاريخية والذي لم يصدر في عهد مبارك لدواع سياسية فما هو مصيره أجاب شبل أنه موجود في فيلته بالهرم وحين سألته لماذا لم يصدر بعد الثورة.. أجابني الأستاذ: ربما اعتبرته الدولة تراثا ولم أفهم مغزي كلامه بصورة تامة.. رحمه الله تعلمنا منه التمهل وعدم التسرع في الحكم علي الأشياء.. والمرونة أيضا فمن الممكن أن تستمر حياة الإنسان في أصعب الظروف ويتقبلها دون أن يفقد إيمانه بالله أبدا فكان رحمه الله لديه نزعة إيمانية قوية عصمته من اليأس فاستسلم لقضاء الله بنفس راضية مطمئنة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.