علي الرغم من الفروق الواضحة بين الثقافة والإعلام, فقد تردد في الآونة الأخيرة عزم الدولة علي دمج الثقافة والإعلام في وزارة واحدة, مما دفع الفنان فاروق حسني وزير الثقافة الي التحذير من ذلك أكثر من مرة. معبرا عن تخوف المثقفين من هذا الدمج الذي وصفه الوزير في أحد تصريحاته بأنه جمع بين ايقاعين مختلفين: إيقاع بطيء تمثله الثقافة, وإيقاع سريع يمثله الإعلام, وهو ما يجعل الجمع بينهما في ايقاع واحد في حكم المستحيل. ولبيان هذه الفروق يتعين أن نبدأ بتعريف أ,ب الثقافة التي تنبع من المجتمع القومي والإنساني, وتعريف أ,ب الإعلام الذي يعكس أحداث المجتمع الآنية, كما يتعين أيضا الوقوف علي مشكلات وأهداف كل منهما ما بين التغيير والثبات, لأن ايجابيات كل منهما قد تتحول, بفعل هذا الدمج, الي سلبيات حين لا تتكامل مع ظروفها الموضوعية, حتي لو اتفقا في المنهج, لاختلاف الطبيعة والوظيفة والغاية بينهما, وهي في الثقافة تقديم الخدمة للشعب وإثارة القلق المخصب في نفسه, ولو بالخسارة, وليس التجارة والكسب في الأسواق, كما هو الحال في الإعلام. وليس تقليلا من شأن الإعلام أن نخرج من المقارنة بين الثقافة والإعلام بتقدم الثقافة علي الإعلام, سواء كان إعلاما مطبوعا أو مذاعا أو رقميا, وإن كنا ندرك في الوقت نفسه أن الإعلام كمعبر مباشر عن النظام القائم يمكن أن يكون, بما يتدفق فيه من معلومات, رافدا جيدا لإعلاء الثقافة والعلم والمعرفة, والعمل علي نشرها علي أوسع نطاق, وبجهد أقل مما تحتاجه الثقافة في نشر أعمالها, دون أن يكون هذا الإعلام أو النشر علي حساب المحتوي والقيمة والحقيقة, أو يكون إحلالا محل الثقافة, أو فعلا من أفعال الهيمنة عليها. وكما يعتبر إحلال الإعلام محل الثقافة خطلا, فإن إحلال الثقافة محل الإعلام لا يقل خطلا. ولكن لتحقيق هذا الوضع الذي يتجاوب فيه الإعلام مع الثقافة, بأدواته الواسعة الانتشار التي لا تفرق بين المتلقين, لابد أن يكون الإعلام محايدا, وفي يد مثقفة متعاونة, تلتزم الحدود والمعالم, وتبحث دائما عن القيمة لا عن مجرد الذيوع, وعن المضمون الإنساني في شروطه العصرية, وليس علي الشكل الجمالي المرتبط عادة بالترفيه والتسلية, ولابد أن يعرف هذا الإعلام أيضا كيف يؤلف بين المتضادات, وكيف يربط بين الكيف والكم, ويخترق الحجب. ذلك أنه من المسلم به أن الفن, إن لم يكن مصاغا صياغة متقنة, تتسق فيه الكلمات مع المعاني, فقد قيمته, وأساء الي متلقيه بدلا من أن يثري وجدانهم, لأن من يضحي بالقيمة الفنية في سبيل القيمة الفكرية فإنه يتنكر للقيمتين معا. ومن يريد تطبيق هذا الكلام النظري فيمكن أن يعود الي الكتب والدوريات المحفوظة في المكتبة العربية, لكي يري ماذا صنعت الثقافة المصرية في مصر في الخمسينيات والستينيات لتجديد الإبداع والنقد والترجمة, وفي رعاية فنون العرض المسرحي المختلفة, وفي الأدب الشعبي, والفن التشكيلي, والآثار. ففي كل هذا الانتاج الذي ارتقي لأعلي المستويات يتمثل عطاء الثقافة التي دافعت في أنضج صورها عن العدل والحرية والديمقراطية والتعددية والتسامح, حتي مكنتها من حصول نجيب محفوط في أواخر الثمانينيات علي جائزة نوبل. وكانت تجارب الإعلام التي اجتمع فيها مع الثقافة في وزارة واحدة تجارب فاشلة, والتجارب الفاشلة لا تنسي ولا تعاد. والسراج المضيء ليس بحاجة الي دليل, ولا يخفي علي أحد أن الثقافة قد تختلف مع النظام, وهذا موطن القوة فيها لا موطن الضعف, لأنها تتجاوز به كل الأوضاع, علي حين أن الإعلام لا يعرف هذا الاختلاف أو هذا التجاوز إلا في أضيق نطاق إن وجد. أما اذا حدث دمج الإعلام في الثقافة, ونشأ التنافس أو التطاحن بينهما, تحت مظلة قيادة واحدة غالبا ما تكون قيادة محافظة, فإن الاعلام سيتغلب بالضرورة علي الثقافة ويلتهمها. وهذا هو الخطر الداهم الذي يهدد الثقافة, ولا يجدي الاعلام كثيرا خضوع الثقافة له, اضافة إلي أن خسارة الثقافة لن يعوضها المكسب في الاعلام, الذي قد يسمح في وسائله بتقديم أعمال ثقافية ضعيفة, مادامت تتطابق مع السياسة العامة للاعلام. ويتزايد خطر الاعلام بالطبع في ظل العولمة التي تقوم علي الدعاية السافرة للقوي الاحتكارية التي تقوم بتهميش الغالبية الفقيرة في صراعها غير المتكافيء مع من يملكون كل شيء, وهي نظرة طبقية تتعارض مع خصائص الثقافة العربية التي لا ينفصل فيها الهامش عن المتن, وقد يكون الهامش فيها أهم من المتن, ولاتنكر أن ينطق الفرفور أو المهرج بالحكمة الغائبة, وتحرص دائما علي ابراز التفرد في الشخصية والتباين بينها وبين غيرها, لا علي التلقين, وفرض النمطية, والصب في قالب واحد. لهذا لابد أن تظل الثقافة بكل مؤسساتها مستقلة عن الإعلام, لها خططها الخاصة في الإنتاج والاستهلاك, اذا أردنا أن تبقي حاملة رسالتها كصناعة ثقيلة, ويبقي الإعلام أيضا مستقلا عن الثقافة, ينتفع كل منهما بالآخر في الإطار الطبيعي له, ويجري فيها التوسع علي المستويين الأفقي والرأسي, أو علي مستوي السطح بالنسبة للإعلام, والعمق بالنسبة للثقافة, بعيدا عن السعايات التي نعاني منها في كل موقع. إننا في الثقافة التي نعتبرها حرفة التعساء ننزع للاستقصاء والتقييم والمراجعة, ونتحرك في الماضي والحاضر والمستقبل, ونفتح النوافذ علي الثقافات الأجنبية بالترجمة والدراسة ودوائر المعارف, لكي يزدهر الفكر الإنساني, وتتوطد العلاقات بين الشعوب, بينما الإعلام يتحرك في الحاضر فقط, ويتعصب للقطرية والشئون الداخلية, ولا يعبأ بغيرها إلا علي سبيل الخبر أو النبأ الذي يلبي لهفة المتلقين, خاصة اذا كانت أحداثه لايمكن تجاهلها. والثقافة هي التي تسجل عصور التاريخ, وهي التي تشكل الحضارة, وليس الإعلام. والحق أنه من الصعب جدا حصر الفروق بين الثقافة والإعلام, وكل ما يمكن أن يقال إن عالم كل منهما مغاير للآخر, وان كان لكل دوره الحضاري الذي لا ينكر, ونموه وازدهاره رهن بخصائصه. وعلينا أن نحافظ علي هذه الخصائص حتي ينمو كل منهما ويزدهر في سياقه الصحيح. لقد كانت وزارة الثقافة التي نشأت بأنبه العقول في1957 هي الأولي في الوطن العربي, والثامنة علي مستوي العالم. وخلال هذا التاريخ الذي يتعدي نصف قرن ارتفعت أبنية قومية عالية, نهضت بالثقافة والوطن والإنسان, لم تعرفها مصر من قبل في تاريخها الطويل, غرست فيها أشجار باسقة, ونضجت ثمار, وأقيمت صروح رائدة, انتصر بها الجديد في الآداب والفنون علي القديم, سواء في الشكل أو المضمون. والتخلي عن هذه الانجازات الثقافية, أو العدول عن مسيرتها, خسارة فادحة لمكانة مصر ودورها الحضاري, أرجو ألا يتورط فيها أحد.