أنيس منصور.. الكاتب الذي وصل الي أعلي مراتب النجومية, وتربع فيها لمدة تزيد علي ستين عاما, من يصدق أنه في معظم الأحيان لم يكن راضيا عما يكتب, ليس لأن هذا الذي يكتبه ردئ المستوي, لأن العكس هو الصحيح, بل إنه كان يعتز بكل كلمة يكتبها, ولكن لأنه دائما كان يريد أن يكتب الأفضل, وبحكم اقترابي منه في بداية حياتي الصحفية في مجلة أكتوبر التي تأسست في الأصل لتعكس قيم وروح جيل النصر العظيم, فقد كنت أسمعه يقول إنه لم يكتب بعد بيده اليمني, وأنه لايزال يكتب باليد اليسري, وهو بالطبع لم يكن أعسر, ولكنه كان يقصد من هذه الاستعارة وهو ملك التشبيهات والاستعارات أنه لم يكتب بعد أفضل ماعنده. كل هذا برغم أنني كنت شاهدا في مناسبات كثيرة علي تقدير كبير من جماهير القراء, ومن عديد من كبار المثقفين لانجازات أنيس الفكرية والأدبية الكبري, فأذكر مثلا أنني حين كنت أعاون الأستاذ الكبير عبدالوهاب مطاوع في مجلة الشباب في بداية توليه مسئولياتها أن استفتاءات المجلة حول أفضل القراء لدي الشباب, والتي كانت تنظم سنويا, كانت نتيجتها الدائمة هي أن أنيس هو الأول دائما لدي شباب جيل الثمانينيات والتسعينيات, وبعدها لم أعد أتابع هذه الاستفتاءات, ولكن بقي أن عموده في الأهرام كان من أكثر مواد الصحيفةاستقبالا لتعليقات القراء. أذكر أيضا أنه عندما بدأت حلقاته في مجلة أكتوبر, بعنوان في صالون العقاد كانت لنا أيام تتوالي, تلقي برقية من أستاذنا الكبير الراحل أحمد بهاء الدين وكان يعمل وقتها رئيسا لتحرير مجلة العربي الكويتية, قالت هذه البرقية: إن حلقات صالون العقاد ليست فقط عملا غير مسبوق في تاريخ الثقافة العربية, وليست فقط تجربة فريدة في سرد وتحليل التطور الثقافي والفكري لمثقف عربي من خلال التفاعل بين الأجيال, وليست فقط تذكيرا لقراء الحاضر بحيوية تيارات الفكر ومدارس الأدب في مصر, ولكن مايكتب هو عمل لم يسبق له نظير في سوسيولوجيا الأدب العربي.. أي تحليل الأدب والثقافة في سياق التطور العام للمجتمع المصري والثقافة المصرية والعربية عموما. الكثيرون بالطبع غير الأستاذ بهاء كتبوا وقالوا الكثير عن كتاب في صالون العقاد كانت لنا أيام, وكثيرون أيضا كتبوا وقالوا عن أهم وأشهر كتب الأستاذ الكبير الراحل, مثل يسقط الحائط الرابع في النقد المسرحي, وبالطبع فقد اتفق الجميع علي منحه لقب أديب الرحلات في الأدب العربي في النصف الثاني من القرن العشرين, ومع ذلك فقد ظل أحب الألقاب اليه ماكان هو يطلقه علي نفسه كاتب المليون قارئ. لكنه كان أيضا يعتز بأنه لم يتوقف يوما عن كتابة عموده, سواء في الأهرام, أو في الأخبار قبل أن ينقل عمود مواقف الي الصفحة الأخيرة بالأهرام مهما تكن شواغله, ومهما تعرض لنوبات المرض. رحم الله أنيس منصور, وأبقي رفاق جيله الذهبي, وعوضنا عنهم بالمواهب الفذة التي تملأ مدن وقري مصر من الأجيال التالية لهذا الجيل, وأجيال الشباب التي تصنع الآن من مصر الجديدة جزءا من العالم المتقدم علميا وثقافيا واقتصاديا وسياسيا. المزيد من مقالات عبدالعظيم حماد