في أثناء إضرابات الزملاء المعلمين حلمت في آخر مقالي السابق بأن أقود معهم مليونية لتطهير جسم التعليم من وباء الدروس الخصوصية ومظاهره السرطانية. ومن عجيب المصادفات أن يسبقني الي ذلك الحلم, لا أولياء الأمور الذين يعانون من تكلفة الدروس الباهظة, بل تجسدت واقعا نادي به فريق من الطلاب, وقد استشعروا مأساتها ومعاناتها خلال كل أعوامهم الدراسية. حدث ذلك مع طلاب إحدي المدارس الثانوية للبنين( مدرسة الدكتور جابر جاد) بمدينة ناصر بمحافظة بني سويف, حسبما ورد في صحيفة( الشروق بتاريخ01/1) لقد قام هؤلاء الطلاب بمظاهرة أمام المدرسة احتجاجا علي ارتفاع أسعار الدروس الخصوصية,( حاملين لافتات مدونا عليها أولياء الأمور تريد الرحمة.. اعتبرونا أولادكم.. ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء.. بالذوق بالأمر ارحموا ولي الأمر.. واحد.. اتنين.. فلوسنا راحت فين). ويتابع خبر الشروق بما أفاد به طالبان من ارتفاع أسعار الدروس الخصوصية الي مابين(06) جنيها الي(001) جنيه للمادة الواحدة في الفترة الواحدة التي يحتاجها الطالب في أكثر من(5) مواد وأخشي من حساب التكلفة خلال العام!! ومما يستحق الملاحظة أن هتافات الطلاب لم تتناول القضاء علي الدروس الخصوصية, وإنما اقتصرت علي ارتفاع أسعارها. وهذا دليل علي استقرار ظاهرة الدروس الخصوصية لديهم علي أنها مسألة طبيعية, لا مناص منها كجزء لا يتجزأ من عملية تعليمهم, يجدون فيها وسيلة مختصرة, ووصل الأمر ببعض الطلاب الي المباهاة بتعاطيها!! كذلك تقبلها علي مضض أولياء الأمور. ورحب بها المعلمون والإدارات التعليمية لما تحمل من ثمار مادية. وقيل لي إن بعض المعلمين ومعهم بعض الطلاب يتهاونون في أداء واجباتهم داخل الفصل, اعتمادا علي أن التعليم الحقيقي سوف يتم خارج المدرسة في ساحات الدروس الخصوصية. وامتد النظر الي الدروس الخصوصية واعتبارها أمرا طبيعيا لدي بعض الوزراء حين يصرح بأنه لن يقترب من هذه المسألة, بادئا ببرامجه الإصلاحية الأخري, والتي سوف تؤدي بطريقة غير مباشرة الي الاستغناء عن الدروس الخصوصية ومراكزها. وجاء الواقع ليبرهن علي أن الدروس الخصوصية تمثل عقبة في سبيل أي من برامجهم الإصلاحية, وتظل كالسوس تنخر في مختلف مواقع المنظومة التعليمية, وإيقاف أي تأثير فيما يتوقعونه من جهودهم. كذلك أدت الي إهدار مجانية التعليم, واستبدالها بمبدأ القدرة المالية علي تحمل نفقات الدروس الخصوصية وقضت كذلك علي أي محاولة لتنمية قدرات التفكير لدي الطالب, في مواصلته التركيز علي عمليات التلقين والحفظ. وامتدت الي إرهاق المعلمين الممارسين لتلك الدروس بما لايترك لهم طاقة لأداء واجباتهم المدرسية نهارا. ومع ارتباط التعليم بالقدرة المالية ضاع التعليم المجاني الجيد لمن لايملكونها مما قضي علي العدالة وتكافؤ الفرص. وامتدت تلك الطبقية الي صفوف المعلمين أنفسهم بين المتخصصين في اللغة الأجنبية وفي العلوم والرياضيات نظرا لارتفاع تسعيرة دروسهم مقارنة بتسعيرة المواد الدراسية الأخري وقد أدي هذا الي توسيع الفجوة بين دخول كل من الفريقين, وضاعت قيمة الأنشطة والفنون التي لاتسعيرة لها, لأنها لاتدخل في تقديرات المجموع النهائي للطلاب. كذلك سادت عمليات الاغتراب لكل من الطلاب والمدرسين عن مؤسستهم من خلال عدم الاكتراث بالانتظام في الدراسة. لديهم( الدروس الخصوصية لها الأولوية والولاء) وتتعدد مظاهر الاغتراب لدي الطلاب بالقفز فوق الأسوار, والي المشاغبات بينهم ومع مدرسيهم قد تصل الي درجات من العنف والاعتداءات البدنية. وفي هذه الأجواء ضاعت كرامة المعلم لدي الطلاب, ولدي أولياء أمورهم, كما ضاعت جدية الطالب في التعليم. ولايتسع المقال للتفصيل في مجمل الخسائر, بل الكوارث التي تصيب استنزاف كل من جيوب أولياء الأمور, وتبديد موارد الدولة وإفشال مشروعاتها الإصلاحية. أليس كارثة أن يكون عامل واحد غير شرعي وغير إنساني قادرا علي تحطيم منظومة من أهم منظومات المجتمع في بناء مقومات التنمية البشرية, خصوصا ونحن في مناخ ثوري ينشد بناءها علي أساس تعليم ديمقراطي يعتمد الحرية والعدالة والتماسك الاجتماعي كقاعدة تربوية راسخة لمجتمع ديمقراطي. لاشيء مستحيل إذا صدقت النية وصح العزم. ومن هذا القبيل ما أسعدني كل السعادة في خبر انتفاضه مدرسة جابر الثانوية التي سبق الإشارة إليها من طهارة بعض معلميها حيث( إن أكثر من06 معلما بالمدرسة أعلنوا خلال تلك المظاهرة, امتناعهم عن الدروس الخصوصية, حفاظا علي كرامتهم أمام الطلاب وأولياء أمورهم. ونظموا مسيرة طافت بالشوارع, مرورا بمقر الإدارة التعليمية, حاملين لافتات كتب عليها( كرامة المعلم أولا). هذه بارقة أمل, ولم تعد أمنيتي بالقضاء علي الدروس الخصوصية حلما, وإنما غدت قابلة لتصبح حقيقة مدوية. ومن ثم فإني أدعو القوي السياسية وانطلاقات شباب ثورة52 يناير, ومعهم معلمو بني سويف وغيرهم من أطهار معلمينا, الي تنظيم مليونية في ميدان التحرير, داعية الي تطهير التعليم من وباء الدروس الخصوصية, وإصدار قانون بتجريمها, فالاتجار بالتعليم كالاتجار بأقوات الشعب. المزيد من مقالات حامد عمار