لا يمر شهر واحد الآن دون أن يشتبك بعض أعضاء مجلس الشعب بالألفاظ, وأحيانا بالأيدي. وكثيرا ما يشهد الشهر الواحد أكثر من اشتباك سواء في جلسات المجلس أو في اجتماعات بعض لجانه. .ولا تقتصر الاشتباكات الكلامية علي الانفعال والحدة. فالعنف اللفظي الذي يلجأ إليه بعض النواب ليس محصورا في رفع الصوت وإثارة الصخب, ولا هو مقصور علي المقاطعة والتهديد والوعيد, وإنما تستخدم فيه لغة لا تليق بمجلس نيابي أو بأي مجلس في الواقع, ففي بعض الاشتباكات اللفظية من القدح والذم ما لا يمكن اعتباره الا شتما وسبا. وكم من اجتماعات تعقدها لجان في المجلس يسودها الهرج والمرج في أجواء هي أبعد ما تكون عن التقاليد البرلمانية العريقة التي نشأ عليها المجلس النيابي في مصر قبل نحو قرن ونصف القرن, وحافظ عليها لفترة طويلة في تاريخه. ولم يعد مثيرا للاستغراب, والحال هكذا, أن تنقل وسائل إعلام ضمن تغطياتها لهذه الاجتماعات أن بعض النواب تدخلوا لإنقاذ أحد زملائهم من محاولة اعتداء زملاء آخرين عليه, أو أن نائبا صعد علي المقاعد لكي يضرب زميله. كما لم يعد مدهشا أن تذكر وسائل إعلام, ضمن هذه التغطيات, ألفاظا نابية تبادلها نائبان أو أكثر خلال أحد الاشتباكات اللفظية المتكررة في مجلس الشعب. ولا يثير هذا كله دهشة أو استغرابا لأن المجلس النيابي اليوم لم يعد مثله بالأمس غير البعيد حين كان الحوار يدور فيه بين خطباء يتنافسون في بلاغة الكلم كما في أداء أدوارهم الرقابية والتشريعية والسياسية بأكبر مقدار ممكن من الالتزام بالمصلحة العامة. كان مجلس النواب(1924 1952) ميدانا لحوار رفيع المستوي بين نواب مفوهين جمع كثير منهم جزالة الكلمات وفخامتها وصدقها وقوة الموقف وشجاعته. كان الواحد منهم يخطب بلسانه وعقله وحواسه كلها, فيشعر من يسمعه وكأن فرقة بكامل هيئتها تعزف أقوي الألحان. وقد حدث شيء من ذلك منذ وقت مبكر أيام مجلس شوري النواب محدود الصلاحيات الذي انشيء في العام1866, وخصوصا في دورته الثالثة التي تخلي فيها بعض النواب عن حذرهم وأدركوا عظيم دورهم وجسامة المهمة الملقاة علي كهولهم. واستمرت المداولات البرلمانية في مصر نظيفة حتي بعد أن هيمنت السلطة التنفيذية علي السلطة التشريعية في مرحلة مجلس الأمة بدءا من عام1957. فرغم ان هذا المجلس فقد جانبا من دوره الفاعل المستقل, فهو لم يفقد التقاليد التي نشأ عليها البرلمان في مصر. واستمر ذلك عندما أصبح اسم البرلمان المصري مجلس الشعب بدءا من عام1971. إلي أن بدأ التدهور الذي حدث في المجتمع يمتد اليه أو يزحف عليه اعتبارا من آخر سبعينيات القرن الماضي. فالمشكلة ليست في المجلس الموقر ذاته وإنما في البيئة الاجتماعية الثقافية السياسية التي يعمل في إطارها. فقد حدث تغير اجتماعي عميق في بلادنا خلال العقود الأربعة الأخيرة. وكان لهذا التغير تداعياته الثقافية القيمية السلوكية التي وصل بعضها الي مؤسسات لم نتمكن من حمايتها من هذه التداعيات. ورغم أن البرلمان ليس جزيرة معزولة عن محيطها, ولا يمكن ان يكون, فلم يكن انعكاس التدهور الذي حدث في المجتمع علي لغة الخطاب فيه محتوما. ولكن ثمة عاملين كان لهما أكبر الأثر في ذلك وهما الطابع السائد للعملية الانتخابية وغياب الخلفية السياسية لدي معظم نواب المجلس في العقود الأخيرة. فقد أدي تجفيف منابع السياسة في المجتمع بعد ثورة1952 إلي تفريغ العملية الانتخابية من مضمونها التنافسي الذي يقوم علي تعدد الاتجاهات والبرامج. فلم تعد الانتخابات بين مرشحين يستندون إلي برامج انتخابية, وإنما بين طامحين إلي عضوية البرلمان بأية طريقة ومن أقصر الطرق. وفي غياب برامج سياسية متنافسة, أصبحت الخدمات الخاصة والعامة هي سلاح المرشحين الطامحين. ولم يلبث هذا السلاح أن توسع ليشمل المال السياسي وشراء الأصوات. وظهر سماسرة احترفوا تعبئة ناخبين من الفئات الاجتماعية الدنيا والدنيا الوسطي الذين يبيعون أصواتهم الانتخابية لمن يدفع أكثر. كما ازدادت أهمية العصبيات العائلية والقروية والعشائرية وأصبحت سلاحا من أكثر الأسلحة الانتخابية قوة. وكان ضروريا, في هذا السياق, أن يصل إلي مجلس الشعب نواب لا يعرف بعضهم عن دورهم البرلماني إلا القليل, ولا يدرون شيئا عن تقاليد هذا المجلس وتاريخه. ومثلما فعلوا كل شيء للوصول الي عضوية البرلمان, صاروا مستعدين لعمل أي شيء من أجل المحافظة علي هذه العضوية. وكان طبيعيا, في مثل هذا الوضع, أن تهبط لغة الخطاب في ظل عدم اهتمام بعضهم حتي بمحاولة تجميل الصورة وعدم حرصهم لا علي أسمائهم ولا علي تقاليد برلمانية يجهلونها ولا يتحمسون لمعرفة شيء عنها. وربما يمكن التماس عذر لهم في هذا المجال. فليسوا هم المسئولين عن التدهور الذي اقترن بتغير اجتماعي لم يستعد له أحد أو يسعي إلي احتواء آثاره السلبية أو محاولة معالجتها. فهم من صنع احتلالات انتشرت في المجتمع, فصاروا جزءا منها في بعض الأحيان وتعبيرا عنها في أحيان أخري. لم يمارس هؤلاء عملا سياسيا مباشرا يزودهم بتجربة ويوفر لهم خبرة, سواء خلال دراستهم في الجامعة أو في مجتمع حيل بينه وبين العمل السياسي منذ خمسينيات القرن الماضي. وهكذا أصبح البرلمان يستقبل نوابا لا يمت معظمهم إلي السياسة والعمل السياسي بصلة, ولا معرفة لهم بتقاليد العمل في هذا البرلمان يوم أن كان له من اسمه أكبر نصيب. كما أصبحت الخدمات الفردية هي أقصي مافي جعبة كثير من النواب الذين يزداد استعدادهم لعمل أي شيء من أجل تجديد انتخابهم. وما قضية العلاج علي نفقة الدولة, وأبطالها الذين زاد عددهم علي مائة وسبعين نائبا, إلا دليل علي ذلك ووجه آخر لتدهور لغة الخطاب في برلمان له من التاريخ ما يفرض المحافظة عليه. وربما لا يكون ممكنا تصحيح مسار العمل البرلماني بدون إصلاح العملية الانتخابية لتشجيع من يحجمون عن الترشيح الآن, وإباحة العمل السياسي في الجامعات التي كانت في زمن مضي هي الساحة التي يكتسب سياسو المستقبل فيها مهارات الخطابة ويتدربون علي المبارزات الكلامية النظيفة, فإذا وصل بعضهم إلي البرلمان كان أهلا له ومؤهلا للدور الذي ينتظره.