تبدت مشكلة الدكتور بي أستاذ الموسيقي حين تكشفت مظاهر غريبة مقلقة في علاقته بالواقع المحيط به, إذ عندما يتقدم إليه أحد طلابه في كلية الموسيقي, كان الدكتوربي لايستطيع أن يميزه, وتحديدا لايميز وجهه بيد أن الطالب إذا ما تكلم علي الفور كان يعرفه, ثم ازدادت مساحة عجزه عن رؤية الوجوه, وهو مايعني تغييب إمكانية رؤية الآخرين, نتيجة عقبة تعرقل تضافره الإنساني, وتفاعله الاجتماعي, ثم تولد من هذا العجز عقبة ثانية تجلت في أنه كان يري وجوها حين لاتكون هناك وجوه تري, إذا كان يربت أحيانا علي رءوس حنفيات الماء, وعدادات وقوف السيارات في الشارع, بوصفها رءوس أطفال, وكذلك كان يخاطب مقابض الأثاث, ويدهش عندما لاتجيب.. ثمة إذن توالد ذاتي لعالم زائف يخلخل علاقته بعالمه الحقيقي الموضوعي, الجدير بالاستيعاب والإدراك والفهم, فالأشياء لم تعد أشياء, وتحطمت علاقة المفهوم ومرجعه, وأصبح لديه عالم بديل خادع يقصي عالمه الحقيقي ويغيبه. صحيح أن قدراته الموسيقية مازالت مذهلة كعادته, وصحيح كذلك أنه لايدرك ما يفعله, ولم يستنكره, وصحيح أيضا أنه لم يشعر أنه يعاني مرضا, لكن الصحيح أن الناس لديهم ميل فطري لكي يراهم الآخرون.تري هل صحيح أنه يستطيع أن يمارس حياته بوصفه ذاتا اجتماعية, ويحظي بالاعتراف من مجتمعه, وليس لديه عالم بصري يمكنه من إدراك العالم من حوله؟ بعد ثلاث سنوات, عندما أصيب بمرض السكر, ولأنه كان مدركا لتأثيره في عينيه, لذا راجع أحد أطباء العيون الذي أقر بسلامة عينيه, لكنه أشار إلي أن ثمة مشكلة في الأجزاء البصرية في الدماغ, وذلك ما يتطلب مراجعة طبيب أعصاب. رافقته زوجته إلي عيادة طبيب الأعصاب في البداية, لم يفهم الطبيب السبب في إحالته إليه, إذ خلال اللقاء تبدي الدكتوربي, رجلا رفيع التهذيب, ذا شخصية جذابة, يجيد الحديث بطلاقة مع شيء من الخيال والدعابة. لكن الطبيب لاحظ أنه يواجهه بأذنه وليس بعينيه, لم يكن الرجل يري وجه الطبيب ككل, أو تعابير وجهه المتغيرة وشخصه بكليته, حيث كانت عيناه تركزان بشكل غريب ومفاجيء علي أنف الطبيب, أو أذنه اليمني, أو ذقنه, أو عينه اليمني, كما لو كان يدرس هذه الملامح المنفردة.لاشك أن المرء لايفكر دائما, وإنما يفكر أمام صعوبات معينة, تري هل هناك صعوبات يعانيها في النظر إلي الطبيب؟ ومادلالة هذه النظرة التجزيئية؟ مارس الطبيب إجراءات الفحص العصبي من اختبارات, ومقارنات, ومعايير, فلاحظ شذوذا ضئيلا علي جانبه الأيسر, كان الطبيب قد نزع عنه حذاءه الأيسر, وخدش باطن قدمه, ثم تركه ينتعل حذاءه بنفسه, لكن شد ما كانت دهشة الطبيب حين وجده لم يقم بذلك, فعرض عليه المساعدة, فلم يدرك الدكتور بي فيما وجه المساعدة, فكرر الطبيب عليه بأن يساعده في انتعال الحذاء, عنذئذ ارتبك الرجل, كما لو كان الحذاء هاربا منه, وأقر أنه نسي الحذاء, وراح حائرا يردد همسا كلمة الحذاء لمرات, واستمر في النظر إلي الأسفل بتركيز شديد, لكن في غير الاتجاه الصحيح للحذاء, وأخيرا استقرت نظرته المحدقة علي قدمه, فإذ به يصيح هذا حذائي, ووضع يده علي قدمه معلنا أنه حذاؤه, متسائلا عن صحة ما توصل إليه, فراجعه الطبيب مصوبا الخطأ, مؤكدا له أنه يمسك بقدمه وليس بحذائه, وتجنبا لمزيد من التعقيد, ساعده الطبيب في انتعال الحذاء. لقد بدا الرجل غير منزعج, وغير مكترث, بل كان مبتهجا, مع أنه كشف عن عطالته وانحسار رؤيته, وعجز عن رؤية حقيقة العالم الموضوعي من خلال الإشارات والدلالات المرتبطة بالحذاء, والتي يمكن من خلالها أن يحدده. استأنف الطبيب فحص مريضه, فتبدت له سلامة اقتدار رؤيته البصرية, فهو لم يجد صعوبة في رؤية دبوس علي الأرض, لكن حين يكون هذا الدبوس موضوعا علي يساره, لحظتها يغلفه ضباب كثيف فينزلق بعيدا عن مجال رؤيته, ويختفي فلا يدركه. وعندما أطلعه الطبيب علي مجلة مصورة, وطلب إليه أن يصف مايراه, استوقفته تفاصيل لفتت انتباهه, كانت عيناه تستقران علي معالم منفردة, يقتطعها من سياق مشهد كلي, إذ المشهد الكلي عصي علي استيعابه, ويفشل في إدراكه. لاشك أنها رؤية تجزيء حقيقة العالم الموضوعي, ولاتدركها في شمولها, وتكرس لعدم التواصل معها إحساسا وإدراكا, ومن ثم تنفي عن الدكتوربي أي مسئولية تجاهها. وضع الطبيب أمام مريضه غلاف مجلة يظهر صورة لامتداد غير منقطع من الكثبان الرملية للصحراء الكبري, وسأله عما يراه, أجاب الرجل بأنه يري نهرا, ومنزل ضيوف يطل علي الماء, وهناك أناس يتناولون عشاءهم, كما أن هناك مظلات ملونة في أماكن متعددة. بالطبع ليس ثمة تطابق بين مايراه والحقيقة, وكأنه يضع علي عينيه ما يحجب عنه العالم الموضوعي, ليحل مكانه عالمه الذاتي الذي يشكل النقيض لما يري, إجهاضا لمولد لحظة التواصل, وتأكيدا لانفصاله عن الأشياء المدرجة تحت حواسه. بدا الطبيب مشدوها, لكن الدكتور بي تبدي واثقا من إجابته. أعلن الطبيب إنهاء الفحص, فراح الرجل ينظر حوله بحثا عن قبعته, ومد يده وأمسك برأس زوجته, وحاول أن يرفعه ليضعه علي رأسه, إذ يبدو أنه حسب زوجته قبعة, أما الزوجة فقد بدت معتادة مثل تلك الأمور. لم يجد الطبيب تفسيرا لما حدث, وألحت عليه التساؤلات, كيف يمكن أن يحسب زوجته قبعة؟ وكيف له أن يتعايش معها؟ وكيف يمارس وظيفته في كلية الموسيقي؟ مد الدكتور بي يده شاردا إلي ساعة الحائط الكبيرة في منزله, وتقدم إليها لمصافحتها, متوهما أنها الطبيب الذي حضر لزيارته, لاستكمال بعض الاختبارات, لكنه تدارك الأمر عند سماعه صوت الطبيب. كانت مهمة الطبيب أن يحدد مدي قدرة مريضه علي إدراك الموجودات من حوله وتعيينها, لذا أجري بعض الاختبارات علي أشكال هندسية مجردة, مثل المكعبات وغيرها, فلم تسبب أي مشكلات بالنسبة إلي مريضه في إدراكه البارد لها. انتقل الطبيب إلي اختبار عن الوجوه الحقيقية, متخذا من التليفزيون أداة تعرض وجوها متعددة, غير أن الدكتور بي لم يستطع تمييز التعبيرات التي تبدت علي وجوه الممثلين, إذا ماكانت شغفا, أو دهشة, أو اشمئزازا, أو غضبا. وضع الطبيب أيضا أمامه مجموعة صور فوتوغرافية لعائلته, وزملائه, وتلاميذه, فإذ به لايميز أحدا أبدا, ولاحتي نفسه, وكأنه ليس هناك من صلة, أو تواصل, أو أثر شخصي, ومن ثم لم يتفاعل معها, تأمل الطبيب اللوحات الأخيرة التي رسمها الدكتور بي, فإذا بها مجرد هراء, تكشف عن أنه في منطقة اللا ضوء, واللا لون, واللامحسوس, فقد دمر العمي البصري كل قوي التصور, وكل إحساس بالملموس, وكل إحساس بالحقيقة, لم يكن لديه عالم بصري حقيقي, أو عالم بصري ذاتي. لقد أعطي الطبيب لمريضه قفازا, وطلب إليه أن يتعرفه, فراح يصفه بأنه سطح متصل, لديه خمسة جيوب خارجية, يمكن أن توضع فيها النقود المعدنية, ولم يسمه أو يحدد وظيفته الحقيقية, لذا تساءل الطبيب: كيف يفهم هذا الرجل مجتمعه من حوله؟ أصدر طبيب الأعصاب الأمريكيأوليفر ساكس, كتابه الرجل الذي حسب زوجته قبعة, حيث يحوي توصيفا يشخص حالات مرضية متعددة, يشكلها عنصر الفقد الذي يصيب البشر نتيجة خلل وظيفي, عندما لاتنجز آلية الجسد الإنساني مايجب أن تنجزه. وقد سجل أوليفر ساكس في هذا الكتاب أعراض أوهام الدكتور بي, بوصفه أحد مرضاه الذي لم يكن يدري أنه مريض, ولم يستنكر مايفعله, أو فساد إجاباته التي تعري خطأ إدراكاته, بل كان علي ثقة راسخة من سلامته, وعلي يقين بصحة إدراكاته التي تتخطي كل قانون وتزيله, وتجمع بين الإنكار والتحدي, في حين أنه علي الحقيقة يعاني خللا في الإدراك البصري, وخللا في التمثل والذاكرة البصرية, يرتبط بكل ما هو شخصي, ومألوف, وملموس, فأصبح بذلك منعزلا مفارقا لاتفاقات مجتمعه, لايسكن وطنا, بل يسكن منفي يعيش فيه مستغلقا علي ذاته المعطوبة, ولايدرك عطبها, ويصدقها ويقرها. صحيح أن موهبته الموسيقية رفيعة المستوي, تجذر خصوصيته, وتمنحه استحقاقا واعترافا بإبداعه, لكن الصحيح أيضا أن ثمة تعارضا يتجلي في إدراكه لمجتمعه من حوله, لايؤهله لاحترام أي محظور, ويستبعد كل ما يرسي قاعدة الحياة المشتركة, إذ الزوجة محض قبعة, وساعة الحائط هي الطبيب, وقدمه هي حذاؤه, والقفاز حافظة نقود, وحنفيات الماء وعدادات وقوف السيارات في الشارع رءوس أطفال, ويغضب عندما يحادث مقابض الأثاث ولاتجيبه, لم يتعرف صوره نفسه, أو عائلته, أو تلامذته, وزملائه, لقد كان الدكتور بي ضائعا في عالم من المجردات الفاقدة للحياة, التي لا علاقه لها بالواقع الموضوعي الذي لايلمسه. والصحيح كذلك أن موهبته الموسيقية, وإدراكاته لواقعة تشكلان جانبين منفصلين متعارضين, يواجه كل منهما الآخر, ولاجسر أو سبيل يمتد بينهما يرفع التعارض بين حديهما. ولأن الكائن الإنساني يرتبط بعلاقات يرعي وجودها نظراؤه في مجتمعه, ولأن الطبيب يدرك حجم كارثة خطأ الدكتور بي, نتيجة افتقاره إلي المعلومات البصرية, حيث لايمتلك سوي أفكار مجردة, ولاشيء غيرها, وهو ما جعله عاجزا عن فهم الهوية, أو التفاصيل, ومن ثم صار عاجزا عن إعادة الفكر المجرد إلي واقع محسوس, وأنه لايمتلك قدرة الحكم علي الأشياء, بوصفها أهم قدرة يمتلكها الإنسان, ولايعرف ماالشيء الضائع منه حتي يمكنه إعادة تأهيل نفسه, لذا فإنه انطلاقا من ضرورة الوعي بالمخاطر كانت نصيحة الطبيب له أنه إذا ما كانت الموسيقي يوما قد شكلت جانبا مركزيا في حياته, فعليه الآن أن يجعلها كل حياته. تري أليست تلك نصيحة مجدية!!