رئيس إسكان النواب: مستأجر الإيجار القديم مُلزم بدفع 250 جنيها بدءا من سبتمبر بقوة القانون    شهداء ومصابون في قصف للاحتلال على حي تل الهوا بمدينة غزة    الأمم المتحدة: أكثر من 100 طفل قضوا جوعا في غزة ودعوات عاجلة للتحرك    اليوم، إعلان نتيجة تنسيق المرحلة الثانية 2025 بالموقع الإلكتروني، اعرف الموعد    شاهد، كيف احتفى جنود إسرائيليون بقصف وقتل مدنيين فلسطينيين عزل في غزة (فيديو)    ترامب يمدد الهدنة التجارية مع الصين لمدة 90 يوما    سعر الذهب في مصر اليوم الثلاثاء 12-8-2025 مع بداية التعاملات الصباحية    سعر الريال السعودي أمام الجنيه اليوم الثلاثاء 12 أغسطس 2025 قبل استهلال التعاملات    انخفاض أسعار الفراخ الأبيض في أسواق أسوان اليوم الثلاثاء 12 أغسطس 2025    فلكيًا.. موعد المولد النبوي الشريف 2025 في مصر و3 أيام إجازة رسمية للموظفين (تفاصيل)    نائبة وزيرة التضامن الاجتماعي تشهد إطلاق مبادرة "أمل جديد" للتمكين الاقتصادي    اليوم، إعلان النتيجة الرسمية لانتخابات مجلس الشيوخ والجدول الزمني لجولة الإعادة    نتيجة تنسيق المرحلة الثانية أدبي.. الموقع الرسمي بعد الاعتماد    الخارجية الروسية: نأمل في أن يساعد لقاء بوتين مع ترامب في تطبيع العلاقات    أنس الشريف وقريقع.. مما يخاف المحتل ؟    غارات واسعة النطاق في القطاع.. والأهداف الخفية بشأن خطة احتلال غزة (فيديو)    وسائل إعلام سورية: تحليق مروحي إسرائيلي في أجواء محافظة القنيطرة    من سيئ إلى اسوأ، الصحف البريطانية تنقلب على محمد صلاح بعد بدايته الباهتة للموسم الجديد    "كلمته".. إعلامي يكشف حقيقة رحيل الشناوي إلى بيراميدز    وليد صلاح الدين: أرحب بعودة وسام أبوعلي للأهلي.. ومصلحة النادي فوق الجميع    مبلغ ضخم، كم سيدفع الهلال السعودي لمهاجمه ميتروفيتش لفسخ عقده؟    «زيزو رقم 3».. وليد صلاح الدين يختار أفضل ثلاثة لاعبين في الجولة الأولى للدوري    من هو الفرنسي كيليان كارسنتي صفقة المصري الجديدة؟ (فيديو صور)    بطل بدرجة مهندس، من هو هيثم سمير بطل السباقات الدولي ضحية نجل خفير أرضه؟ (صور)    مصرع شخص تحت عجلات القطار في أسوان    لتنشيط الاستثمار، انطلاق المهرجان الصيفي الأول لجمصة 2025 (فيديو وصور)    4 أبراج «في الحب زي المغناطيس».. يجذبون المعجبين بسهولة وأحلامهم تتحول لواقع    من شرفة بالدقي إلى الزواج بعد 30 عاما.. محمد سعيد محفوظ: لأول مرة أجد نفسي بطلا في قصة عاطفية    "كيس نسكافيه" يضع الشامي في ورطة بعد ترويجه لأغنيته الجديدة "بتهون"    24 صورة لنجوم الفن بالعرض الخاص ل"درويش" على السجادة الحمراء    بالصور.. أحدث جلسة تصوير ل آمال ماهر في الساحل الشمالي    مواقيت الصلاة في أسوان اليوم الثلاثاء 12أغسطس 2025    تحارب الألم والتيبس.. مشروبات صيفية مفيدة لمرضى التهاب المفاصل    خلاف جيرة يتحول إلى مأساة.. شاب ينهي حياة آخر طعنًا بكفر شكر    موعد مباراة سيراميكا كيلوباترا وزد بالدوري والقنوات الناقلة    حزب شعب مصر: توجيهات الرئيس بدعم الكوادر الشبابية الإعلامية يؤكد حرصه على مستقبل الإعلام    التحفظ على أموال وممتلكات البلوجر محمد عبدالعاطي    وكيل وزارة الصحة بالإسكندرية يعقد اجتماعاً موسعاً لمتابعة الأداء وتحسين الخدمات الصحية    أبرزها الماء والقهوة.. مسببات حساسية لا تتوقعها    "بلومبرغ": البيت الأبيض يدرس 3 مرشحين رئيسيين لرئاسة الاحتياطي الفيدرالي    19 عامًا على رحيل أحمد مستجير «أبوالهندسة الوراثية»    أصالة تتوهج بالعلمين الجديدة خلال ساعتين ونصف من الغناء المتواصل    د. آلاء برانية تكتب: الوعى الزائف.. مخاطر الشائعات على الثقة بين الدولة والمجتمع المصري    محكمة الأسرة ببني سويف تقضي بخلع زوجة: «شتمني أمام زملائي في عملي»    رئيس «الخدمات البيطرية»: هذه خطط السيطرة علي تكاثر كلاب الشوارع    نجم الأهلي السابق: صفقات الزمالك الجديدة «فرز تاني».. وزيزو لا يستحق راتبه مع الأحمر    استغلي موسمه.. طريقة تصنيع عصير عنب طبيعي منعش وصحي في دقائق    «مشروب المقاهي الأكثر طلبًا».. حضري «الزبادي خلاط» في المنزل وتمتعي بمذاق منعش    انتشال سيارة سقطت بالترعة الإبراهيمية بطهطا.. وجهود للبحث عن مستقليها.. فيديو    كيفية شراء سيارة ملاكي من مزاد علني يوم 14 أغسطس    حدث بالفن | حقيقة لقاء محمد رمضان ولارا ترامب وجورجينا توافق على الزواج من رونالدو    أخبار 24 ساعة.. 271 ألفا و980 طالبا تقدموا برغباتهم على موقع التنسيق الإلكترونى    إطلاق منظومة التقاضى عن بعد فى القضايا الجنائية بمحكمة شرق الإسكندرية.. اليوم    أجمل عبارات تهنئة بالمولد النبوي الشريف للأهل والأصدقاء    أنا مريضة ينفع آخد فلوس من وراء أهلي؟.. عضو بمركز الأزهر تجيب    هل يشعر الموتى بالأحياء؟.. أمين الفتوى يجيب    محافظ الأقصر يبحث مع وفد الصحة رفع كفاءة الوحدات الصحية واستكمال المشروعات الطبية بالمحافظة    أمين الفتوى: الحلال ينير العقل ويبارك الحياة والحرام يفسد المعنى قبل المادة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ضرورة الوعي بالمخاطر
نشر في الأهرام اليومي يوم 08 - 03 - 2010

تبدت مشكلة الدكتور بي أستاذ الموسيقي حين تكشفت مظاهر غريبة مقلقة في علاقته بالواقع المحيط به‏,‏ إذ عندما يتقدم إليه أحد طلابه في كلية الموسيقي‏,‏ كان الدكتوربي لايستطيع أن يميزه‏,‏ وتحديدا لايميز وجهه‏ بيد أن الطالب إذا ما تكلم علي الفور كان يعرفه‏,‏ ثم ازدادت مساحة عجزه عن رؤية الوجوه‏,‏ وهو مايعني تغييب إمكانية رؤية الآخرين‏,‏ نتيجة عقبة تعرقل تضافره الإنساني‏,‏ وتفاعله الاجتماعي‏,‏ ثم تولد من هذا العجز عقبة ثانية تجلت في أنه كان يري وجوها حين لاتكون هناك وجوه تري‏,‏ إذا كان يربت أحيانا علي رءوس حنفيات الماء‏,‏ وعدادات وقوف السيارات في الشارع‏,‏ بوصفها رءوس أطفال‏,‏ وكذلك كان يخاطب مقابض الأثاث‏,‏ ويدهش عندما لاتجيب‏..‏ ثمة إذن توالد ذاتي لعالم زائف يخلخل علاقته بعالمه الحقيقي الموضوعي‏,‏ الجدير بالاستيعاب والإدراك والفهم‏,‏ فالأشياء لم تعد أشياء‏,‏ وتحطمت علاقة المفهوم ومرجعه‏,‏ وأصبح لديه عالم بديل خادع يقصي عالمه الحقيقي ويغيبه‏.‏ صحيح أن قدراته الموسيقية مازالت مذهلة كعادته‏,‏ وصحيح كذلك أنه لايدرك ما يفعله‏,‏ ولم يستنكره‏,‏ وصحيح أيضا أنه لم يشعر أنه يعاني مرضا‏,‏ لكن الصحيح أن الناس لديهم ميل فطري لكي يراهم الآخرون‏.‏تري هل صحيح أنه يستطيع أن يمارس حياته بوصفه ذاتا اجتماعية‏,‏ ويحظي بالاعتراف من مجتمعه‏,‏ وليس لديه عالم بصري يمكنه من إدراك العالم من حوله؟ بعد ثلاث سنوات‏,‏ عندما أصيب بمرض السكر‏,‏ ولأنه كان مدركا لتأثيره في عينيه‏,‏ لذا راجع أحد أطباء العيون الذي أقر بسلامة عينيه‏,‏ لكنه أشار إلي أن ثمة مشكلة في الأجزاء البصرية في الدماغ‏,‏ وذلك ما يتطلب مراجعة طبيب أعصاب‏.‏
رافقته زوجته إلي عيادة طبيب الأعصاب في البداية‏,‏ لم يفهم الطبيب السبب في إحالته إليه‏,‏ إذ خلال اللقاء تبدي الدكتوربي‏,‏ رجلا رفيع التهذيب‏,‏ ذا شخصية جذابة‏,‏ يجيد الحديث بطلاقة مع شيء من الخيال والدعابة‏.‏ لكن الطبيب لاحظ أنه يواجهه بأذنه وليس بعينيه‏,‏ لم يكن الرجل يري وجه الطبيب ككل‏,‏ أو تعابير وجهه المتغيرة وشخصه بكليته‏,‏ حيث كانت عيناه تركزان بشكل غريب ومفاجيء علي أنف الطبيب‏,‏ أو أذنه اليمني‏,‏ أو ذقنه‏,‏ أو عينه اليمني‏,‏ كما لو كان يدرس هذه الملامح المنفردة‏.‏لاشك أن المرء لايفكر دائما‏,‏ وإنما يفكر أمام صعوبات معينة‏,‏ تري هل هناك صعوبات يعانيها في النظر إلي الطبيب؟ ومادلالة هذه النظرة التجزيئية؟ مارس الطبيب إجراءات الفحص العصبي من اختبارات‏,‏ ومقارنات‏,‏ ومعايير‏,‏ فلاحظ شذوذا ضئيلا علي جانبه الأيسر‏,‏ كان الطبيب قد نزع عنه حذاءه الأيسر‏,‏ وخدش باطن قدمه‏,‏ ثم تركه ينتعل حذاءه بنفسه‏,‏ لكن شد ما كانت دهشة الطبيب حين وجده لم يقم بذلك‏,‏ فعرض عليه المساعدة‏,‏ فلم يدرك الدكتور بي فيما وجه المساعدة‏,‏ فكرر الطبيب عليه بأن يساعده في انتعال الحذاء‏,‏ عنذئذ ارتبك الرجل‏,‏ كما لو كان الحذاء هاربا منه‏,‏ وأقر أنه نسي الحذاء‏,‏ وراح حائرا يردد همسا كلمة الحذاء لمرات‏,‏ واستمر في النظر إلي الأسفل بتركيز شديد‏,‏ لكن في غير الاتجاه الصحيح للحذاء‏,‏ وأخيرا استقرت نظرته المحدقة علي قدمه‏,‏ فإذ به يصيح هذا حذائي‏,‏ ووضع يده علي قدمه معلنا أنه حذاؤه‏,‏ متسائلا عن صحة ما توصل إليه‏,‏ فراجعه الطبيب مصوبا الخطأ‏,‏ مؤكدا له أنه يمسك بقدمه وليس بحذائه‏,‏ وتجنبا لمزيد من التعقيد‏,‏ ساعده الطبيب في انتعال الحذاء‏.‏ لقد بدا الرجل غير منزعج‏,‏ وغير مكترث‏,‏ بل كان مبتهجا‏,‏ مع أنه كشف عن عطالته وانحسار رؤيته‏,‏ وعجز عن رؤية حقيقة العالم الموضوعي من خلال الإشارات والدلالات المرتبطة بالحذاء‏,‏ والتي يمكن من خلالها أن يحدده‏.‏
استأنف الطبيب فحص مريضه‏,‏ فتبدت له سلامة اقتدار رؤيته البصرية‏,‏ فهو لم يجد صعوبة في رؤية دبوس علي الأرض‏,‏ لكن حين يكون هذا الدبوس موضوعا علي يساره‏,‏ لحظتها يغلفه ضباب كثيف فينزلق بعيدا عن مجال رؤيته‏,‏ ويختفي فلا يدركه‏.‏ وعندما أطلعه الطبيب علي مجلة مصورة‏,‏ وطلب إليه أن يصف مايراه‏,‏ استوقفته تفاصيل لفتت انتباهه‏,‏ كانت عيناه تستقران علي معالم منفردة‏,‏ يقتطعها من سياق مشهد كلي‏,‏ إذ المشهد الكلي عصي علي استيعابه‏,‏ ويفشل في إدراكه‏.‏ لاشك أنها رؤية تجزيء حقيقة العالم الموضوعي‏,‏ ولاتدركها في شمولها‏,‏ وتكرس لعدم التواصل معها إحساسا وإدراكا‏,‏ ومن ثم تنفي عن الدكتوربي أي مسئولية تجاهها‏.‏ وضع الطبيب أمام مريضه غلاف مجلة يظهر صورة لامتداد غير منقطع من الكثبان الرملية للصحراء الكبري‏,‏ وسأله عما يراه‏,‏ أجاب الرجل بأنه يري نهرا‏,‏ ومنزل ضيوف يطل علي الماء‏,‏ وهناك أناس يتناولون عشاءهم‏,‏ كما أن هناك مظلات ملونة في أماكن متعددة‏.‏ بالطبع ليس ثمة تطابق بين مايراه والحقيقة‏,‏ وكأنه يضع علي عينيه ما يحجب عنه العالم الموضوعي‏,‏ ليحل مكانه عالمه الذاتي الذي يشكل النقيض لما يري‏,‏ إجهاضا لمولد لحظة التواصل‏,‏ وتأكيدا لانفصاله عن الأشياء المدرجة تحت حواسه‏.‏ بدا الطبيب مشدوها‏,‏ لكن الدكتور بي تبدي واثقا من إجابته‏.‏ أعلن الطبيب إنهاء الفحص‏,‏ فراح الرجل ينظر حوله بحثا عن قبعته‏,‏ ومد يده وأمسك برأس زوجته‏,‏ وحاول أن يرفعه ليضعه علي رأسه‏,‏ إذ يبدو أنه حسب زوجته قبعة‏,‏ أما الزوجة فقد بدت معتادة مثل تلك الأمور‏.‏
لم يجد الطبيب تفسيرا لما حدث‏,‏ وألحت عليه التساؤلات‏,‏ كيف يمكن أن يحسب زوجته قبعة؟ وكيف له أن يتعايش معها؟ وكيف يمارس وظيفته في كلية الموسيقي؟
مد الدكتور بي يده شاردا إلي ساعة الحائط الكبيرة في منزله‏,‏ وتقدم إليها لمصافحتها‏,‏ متوهما أنها الطبيب الذي حضر لزيارته‏,‏ لاستكمال بعض الاختبارات‏,‏ لكنه تدارك الأمر عند سماعه صوت الطبيب‏.‏ كانت مهمة الطبيب أن يحدد مدي قدرة مريضه علي إدراك الموجودات من حوله وتعيينها‏,‏ لذا أجري بعض الاختبارات علي أشكال هندسية مجردة‏,‏ مثل المكعبات وغيرها‏,‏ فلم تسبب أي مشكلات بالنسبة إلي مريضه في إدراكه البارد لها‏.‏ انتقل الطبيب إلي اختبار عن الوجوه الحقيقية‏,‏ متخذا من التليفزيون أداة تعرض وجوها متعددة‏,‏ غير أن الدكتور بي لم يستطع تمييز التعبيرات التي تبدت علي وجوه الممثلين‏,‏ إذا ماكانت شغفا‏,‏ أو دهشة‏,‏ أو اشمئزازا‏,‏ أو غضبا‏.‏ وضع الطبيب أيضا أمامه مجموعة صور فوتوغرافية لعائلته‏,‏ وزملائه‏,‏ وتلاميذه‏,‏ فإذ به لايميز أحدا أبدا‏,‏ ولاحتي نفسه‏,‏ وكأنه ليس هناك من صلة‏,‏ أو تواصل‏,‏ أو أثر شخصي‏,‏ ومن ثم لم يتفاعل معها‏,‏ تأمل الطبيب اللوحات الأخيرة التي رسمها الدكتور بي‏,‏ فإذا بها مجرد هراء‏,‏ تكشف عن أنه في منطقة اللا ضوء‏,‏ واللا لون‏,‏ واللامحسوس‏,‏ فقد دمر العمي البصري كل قوي التصور‏,‏ وكل إحساس بالملموس‏,‏ وكل إحساس بالحقيقة‏,‏ لم يكن لديه عالم بصري حقيقي‏,‏ أو عالم بصري ذاتي‏.‏ لقد أعطي الطبيب لمريضه قفازا‏,‏ وطلب إليه أن يتعرفه‏,‏ فراح يصفه بأنه سطح متصل‏,‏ لديه خمسة جيوب خارجية‏,‏ يمكن أن توضع فيها النقود المعدنية‏,‏ ولم يسمه أو يحدد وظيفته الحقيقية‏,‏ لذا تساءل الطبيب‏:‏ كيف يفهم هذا الرجل مجتمعه من حوله؟
أصدر طبيب الأعصاب الأمريكيأوليفر ساكس‏,‏ كتابه الرجل الذي حسب زوجته قبعة‏,‏ حيث يحوي توصيفا يشخص حالات مرضية متعددة‏,‏ يشكلها عنصر الفقد الذي يصيب البشر نتيجة خلل وظيفي‏,‏ عندما لاتنجز آلية الجسد الإنساني مايجب أن تنجزه‏.‏ وقد سجل أوليفر ساكس في هذا الكتاب أعراض أوهام الدكتور بي‏,‏ بوصفه أحد مرضاه الذي لم يكن يدري أنه مريض‏,‏ ولم يستنكر مايفعله‏,‏ أو فساد إجاباته التي تعري خطأ إدراكاته‏,‏ بل كان علي ثقة راسخة من سلامته‏,‏ وعلي يقين بصحة إدراكاته التي تتخطي كل قانون وتزيله‏,‏ وتجمع بين الإنكار والتحدي‏,‏ في حين أنه علي الحقيقة يعاني خللا في الإدراك البصري‏,‏ وخللا في التمثل والذاكرة البصرية‏,‏ يرتبط بكل ما هو شخصي‏,‏ ومألوف‏,‏ وملموس‏,‏ فأصبح بذلك منعزلا مفارقا لاتفاقات مجتمعه‏,‏ لايسكن وطنا‏,‏ بل يسكن منفي يعيش فيه مستغلقا علي ذاته المعطوبة‏,‏ ولايدرك عطبها‏,‏ ويصدقها ويقرها‏.‏ صحيح أن موهبته الموسيقية رفيعة المستوي‏,‏ تجذر خصوصيته‏,‏ وتمنحه استحقاقا واعترافا بإبداعه‏,‏ لكن الصحيح أيضا أن ثمة تعارضا يتجلي في إدراكه لمجتمعه من حوله‏,‏ لايؤهله لاحترام أي محظور‏,‏ ويستبعد كل ما يرسي قاعدة الحياة المشتركة‏,‏ إذ الزوجة محض قبعة‏,‏ وساعة الحائط هي الطبيب‏,‏ وقدمه هي حذاؤه‏,‏ والقفاز حافظة نقود‏,‏ وحنفيات الماء وعدادات وقوف السيارات في الشارع رءوس أطفال‏,‏ ويغضب عندما يحادث مقابض الأثاث ولاتجيبه‏,‏ لم يتعرف صوره نفسه‏,‏ أو عائلته‏,‏ أو تلامذته‏,‏ وزملائه‏,‏ لقد كان الدكتور بي ضائعا في عالم من المجردات الفاقدة للحياة‏,‏ التي لا علاقه لها بالواقع الموضوعي الذي لايلمسه‏.‏
والصحيح كذلك أن موهبته الموسيقية‏,‏ وإدراكاته لواقعة تشكلان جانبين منفصلين متعارضين‏,‏ يواجه كل منهما الآخر‏,‏ ولاجسر أو سبيل يمتد بينهما يرفع التعارض بين حديهما‏.‏ ولأن الكائن الإنساني يرتبط بعلاقات يرعي وجودها نظراؤه في مجتمعه‏,‏ ولأن الطبيب يدرك حجم كارثة خطأ الدكتور بي‏,‏ نتيجة افتقاره إلي المعلومات البصرية‏,‏ حيث لايمتلك سوي أفكار مجردة‏,‏ ولاشيء غيرها‏,‏ وهو ما جعله عاجزا عن فهم الهوية‏,‏ أو التفاصيل‏,‏ ومن ثم صار عاجزا عن إعادة الفكر المجرد إلي واقع محسوس‏,‏ وأنه لايمتلك قدرة الحكم علي الأشياء‏,‏ بوصفها أهم قدرة يمتلكها الإنسان‏,‏ ولايعرف ماالشيء الضائع منه حتي يمكنه إعادة تأهيل نفسه‏,‏ لذا فإنه انطلاقا من ضرورة الوعي بالمخاطر كانت نصيحة الطبيب له أنه إذا ما كانت الموسيقي يوما قد شكلت جانبا مركزيا في حياته‏,‏ فعليه الآن أن يجعلها كل حياته‏.‏ تري أليست تلك نصيحة مجدية‏!!‏

المزيد من مقالات د.فوزي فهمي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.