في كتابه الذي نشر عام 1938 مستقبل الثقافة في مصر أعلن طه حسين رفضه للتعليم الأجنبي القائم في مصر متهما إياه بأنه لا يلتفت لحاجة الشعب وأغراضه ولا معني إلا بنشر ثقافة البلاد التي جاء منها, والدعوة لهذه البلاد. في إشارة إلي خطورة هذا النوع من التعليم علي هوية أبناء المصريين أوضح أنه يؤدي إلي تكوين تلاميذ المصريين علي نحو أجنبي خالص, وهذا خليق أن يبغض إليهم بيئتهم المصرية وأن يهون في نفوسهم قدر وطنهم المصري. لقد ظلت قومية التعليم مطلبا وطنيا منذ بداية القرن الماضي حتي عام 1956 بعد ثورة 23 يوليو حيث تم إلغاء هذا التعليم, وبعد مرور أكثر من 75 عاما علي كتاب مستقبل التعليم في مصر ل طه حسين, اجدني أعود إليه لتدعيم موقفي الرافض للتعليم الأجنبي وتأكيد خطورته علي وحدة المجتمع وثقافته. وهذا يعني أننا نعيد إنتاج نفس القضايا, وعلي ما يبدو أن حركة التطور في مصر هي حركة دائرية دائما نعود من حيث بدأنا. ما دفعني للكتابة هذه المرة موقف أثار حفيظتي, في زيارة لأحد المدارس الخاصة استمعت فيه إلي أحد مديري المدارس وهو يستعرض أمام أولياء الأمور مزايا التعليم الأجنبي (الدولي) ويفند إيجابيات كل نوع (أمريكي انجليزي كندي) كي يفاضل الآباء بين احدهم, وفي سياق حديثه أشار إلي التعليم القومي بقوله (طبعا التعليم المصري فاشل وميئوس منه, ويؤدي إلي تخلف عقول الأطفال فيجب أن يستبعد من حساباتكم) وكان المدير يتباهي أنه استطاع تقليص عدد فصول التعليم القومي والتوسع في افتتاح فصول للتعليم الدولي بنفس المبني, أكثر ما كان يحزنني في هذا المشهد هو وجود الأطفال في مراحل عمرية مختلفة يستمعون إلي هذا الحديث, وتساءلت ما هي الشخصية المتوقعة لهؤلاء الأطفال, وكيف تتشكل شخصيتهم في هذا المناخ وهم يستمعون إلي هذا الكلام من شخص من المفترض أنه يدير مؤسسة تربوية ويقوم علي تربية جيل من المصريين, كيف تكون نظرة هؤلاء الأفراد إلي مجتمعهم وبيئتهم, كيق تكون النظرة إلي كل ما هو مصري, إن النتيجة الطبيعية هي تخريج جيل مغترب عن بيئتهم ومجتمعهم. كما حذر طه حسين من ذلك منذ أكثر من سبعين عاما. جعلني هذا الموقف أقارن بينه وموقف إحدي الطالبات الأوائل في الثانوية العامة لهذا العام في حديث مع إحدي القنوات الفضائية عندما أشارت إلي أن البعض حاول إقناعها بالالتحاق بالدبلومة الأمريكية أو بشهادة الGCE لكنها رفضت لأنها تري أن التعليم المصري ليس سيئا كما يروج البعض, بل أنه يوجد بعض السلبيات التي يمكن إصلاحها, هناك فرق شاسع بين نظرة النقد المتعالية من شخص من المفترض انه مسئول عن مؤسسة تربوية ونظرة المحب الناقدة من طالبة تخرجت من هذا التعليم الذي نعت بالمتخلف, وان دل ذلك علي شيء إنما يدل علي دحض مزاعم هؤلاء المستفيدين من هذا التعليم (حيث تصل مرتبات القائمين عليه إلي أضعاف أضعاف نظائرهم في التعليم القومي في نفس المؤسسة التعليمية), من أن التعليم القومي يخرج شبابا ليس لديه القدرة علي التفكير والإبداع, حتي إني سمعت البعض يردد أن شباب الثورة من خريجي المدارس الدولية. وهذا غير صحيح. يجب الإشارة إلي انه إذا كان للتعليم الأجنبي فوائد, فإن أهم مساوئه تلك النظرة المتعالية لكل ما هو قومي وهذا يختلف عن النظرة الناقدة, وما أحوجنا في ظل هذه الظروف إلي هذا النقد البناء, ما أحوجنا إلي من يمد يده إلي المجتمع كي ينهض به ويجذبه إلي أعلي لا يصعد فوقه, يعلو به لا يتعالي عليه. قد نكون جميعا نحب هذا الوطن, ولكن هناك فرقا بين أن تعمل من أجلك أنت أو من أجل الكل, لمصلحة فئة معينة أم للصالح العام, هذا ما نسميه الانتماء, إن التعليم القومي وهو وحده القادر علي خلق هذه الشخصية, وفي ذلك يقول طه حسين إن التعليم هو أيسر وسيلة في يد الدولة لتكوين الوحدة الوطنية بين أفراد المجتمع. لكل نظام تعليمي هويته ومازلت مصرة أن أعيد ما اتفق عليه علماء التربية في العالم, من انه ليس ثمة ما يمكن اعتباره عملية تربوية محايدة, وفي ذلك يقول د. لسترسميث: إن التربية ونظم التعليم أشبه بالكائن الحي الذي ينمو في جو معين وتربة ذات خصائص مميزة, ويرتبط هذا النمو ارتباطا وثيقا بالظروف السياسية والاقتصادية والدينية التي يقوم فيها, والواقع أن نظم التعليم سلع لا يمكن تصديرها أو استيرادها, بل إن عمليات النقل إن تمت إنما تكون ذات خطر بالغ علي الجهة المستوردة, كما يؤكد د. محمود قمبر ذلك المعني, حيث يشير إلي أن النظم التعليمية في بلادها هي من نبت أرضها وتأثير مناخها, ولا توجد إلا في تربتها الأصلية وبيئتها المحلية, ومرة أخري فإذا كنا لا نفهم في الجغرافيا هلا قرأنا التاريخ. المزيد من مقالات د. بثية عبد الرؤوف