مثل الشهب شق صدر سماء اللحن المصري والعربي بثقة فأحدث الدهشة وأدرك الذهول عقول المطربين والملحنين علي السواء من فرط عبقرية موسيقاه التي تخاطب الروح وتأسر الوجدان, فتتري لها المشاعر الدافئة وتتوق لها النفوس المعذبة في دنيا الهوي والغرام, وتهتز لها الأبدان المفتونة بعشق تراب الوطن, وبمفعول السحر تسري جمله اللحنية في عروق البسطاء نابضة بدماء الحرية فتغلي مثل بركان هادر يدفع نحو حافة خلاص النفوس من الظلم والاستبداد. هو سهم نافذ في قلب مواطن الشجن العربي استطاع أن يخترق جوهر المشاعر المصرية في سهولة ويسر ليصبح الفاتح الأكبر لصناعة اللحن الشجي علي مصراعيه وبأقصي درجات التحرر الكامل من أي قيد يحول بينه وبين التحليق في سماء الفن الذي عشقه منذ أن فتح عينه علي الدنيا. إنه عبقري الموسيقي المصري بليغ حمدي الجامع بين القديم والجديد في عالم موسيقي فريد ومبتكر عشقه منذ نعومة أظفاره فلم يترك بابا يأنس من ورائه شعاعا من فائدة فنية إلا ولجه فبدا لحنه في شكله العام سهلا ممتعا وشجيا بينما جوهره يمتاز بالجذالة التي لاتفقد حداثتها, واعتمد في تكوين خبراته الموسيقية علي الموسيقي الشعبية المصرية والفولكلور المصري ولاسيما الفولكلور الصعيدي, كما أهتم أيضا بالفولكلورالشامي, فضلا عن دراسته العميقة لعلوم الموسيقي الأوربية بما فيها الهارموني والتوزيع الموسيقي. وإذا كان زرياب تلميذ اسحاق الموصلي قد زاد في أوتارعوده وترا خامسا فاكتسب به ألطف معني وأكمل فائدة وأدخل علي الموسيقي مقامات كثيرة لم تكن معروفة قبله, فإن بليغ حمدي استطاع أن يستوعب كل ذلك ويضيف آلاف من الأوتار التي تعزف علي ايقاع المشاعر الإنسانية الرقيقة والغالبة علي كل معني وقيمة, فتميزت ألحانه للأغنية المصرية بالشكل القومي, وتميز عن جيله وكل من سبقوه باستلهام الألحان من التراث وإعادة تقديمها في شكل مبتكر يناسب العصر وإيقاعه, ولم يكن الإيقاع بالنسبة له هو الميزان الإيقاعي التقليدي بل انه ذلك الذي يمثل نبض الموسيقي الخفي. وعلي صغر سنه في بداياته الموسيقية فقد تعددت منابعه حيث أعطي اهتماما بالغا للموسيقي التركية والفارسية وموسيقي الخليج العربي وموسيقي بلاد المغرب العربي وكذلك موسيقي بلاد الشام, وليس هذا فحسب بل انه اهتم بدراسة آلات هذه البلدان وإيقاعاتها ومقاماتها وأساليبها في الغناء والتطريب والتأليف الموسيقي و اقام مزجا حيا بين كل تلك الموسيقات, وهو الذي أدخل التوزيع الآلي في ألحانه, وطور في أسلوب أداء المجموعة الصوتية الكورال فقد أعطي للمجموعة الصوتية المصاحبة للمطرب دورا بارزا بعد أن كان دورها ثانويا ووظف بعض الآلات الجديدة علي التخت العربي بطريقة مبتكرة مثل الساكسفون والجيتار والأورج, كما أدخل الموسيقي الالكترونية في ألحانه ليستوعب في النهاية كل أدوات عصره.بليغ حمدي لم يكن ملحنا موهوبا فحسب بل ملحن مفكر, يلحن لكل مطرب ما هو مناسب لصوته, فلا يلحن لوردة مثل عبدالحليم, ولا يلحن لأم كلثوم مثل فايزة أحمد, فقد بني بليغ لحنه علي أساس فائق الاهمية هو معرفته لتكوين المزاج العربي, فكان يلحن لهذا المزاج العربي العام, ومع ذلك لم ينل من التكريم في حياته أو بعد مماته مايوازي كونه أفضل من انجبت الموسيقي العربيه.