برغم أن بدء المحاكمات العلنية لرموز الفساد والاستبداد في النظام السابق, وعلي رأسهم رئيسه, يشكل علامة شكلية ومعنوية فارقة, سواء في حركيات ثورة25 يناير, أو في التاريخ العام لمصر. فإن ذلك يجب أن لا ينسينا وجود إشكالية غير عادية تواجه الثورة. هذه الاشكالية تتمثل فيما يمكن تسميته ب التلكؤ الاستراتيجي, والذي صار أكثر تفاقما ووضوحا مع تخطي الثورة ستة أشهر من عمرها. وكأمثلة لما تقاسيه الثورة من التلكؤات الاستراتيجية يمكن الإشارة إلي ما يلي: 1 عدم حدوث أي ارتقاء منظومي في بنية الثورة, منذ إسقاط رأس النظام. ذلك, حيث الثورة منذ قيامها, وحتي الآن, لازالا جسما( من المليونيات) بدون رأس قيادية جماعية, كما هو مفترض 2 عدم قيام الثورة ببناء كيان قومي يختص بتفريغ البلاد من الفساد, وذلك برغم أن معاناة الفساد كانت قوة الدفع الرئيسية للثورة. 3 انحباس أهداف الثورة تحت سقف المطالبات الإجرائية, كالمحاكمات وحل بعض المجالس, وعدم امتدادها بعد, لا إلي المطالب التوظيفية وتحديدا بناء ميكانيزمات قومية لمجابهة الفساد وللتحول الديمقراطي, ونزول الثورة إلي وحدات العمل, ولا إلي المطالب الاستراتيجية, والتي تختص بالمسارات العامة, الهادفة إلي تحقيق التقدم التنموي المتسارع, والي انجاز تحولات ثقافية سلوكية موازية.4 تعرض حالة الثورة, إلي ضبابيات لم يكن من العسير تلافيها, ومن شأنها إحداث تعطيلات( وإنجرافات) عن مساراتها, وذلك علي غرار ما يلي: أ) تعجلات من المجلس العسكري, بإتخاذ خطوات محورية وحرجة بالنسبة لحالة الثورة, مثلما جري بخوص الاستفتاء والإعلان الدستوري, دون حوار منظم وفاعل مع قوة الثورة, وكذلك مثلما جري من تعامل إعلامي تعميمي بخصوص إدانات لبعض القوي التي مهدت للثورة( كفاية كمثال). ذلك إضافة إلي مفاجأ شارع الثورة بتعاملات مع حركيات الإضراب من منظور أمني عقابي, وليس من منظور سياسي تطويري تمكيني. ب) تباطؤات غير مبررة في أمور حرجة, مثل العلاج الجذري لمسألة عدم انضباط أمن الشارع. ذلك فضلا عن إشكالية إقامة حكومة ثورة. هكذا إذن, في ظل التلكؤ الاستراتيجي, تتعرض الثورة عمليا لحالة محلك سر. يظهر ذلك في غلبة تسيير الأمور طبقا ل التجربة والخطأ والضغط, وليس من خلال رؤي, والارتكان ل التجربة والخطأ, تتأهل القوي المضادة للثورة لاستغلال الخصاص المجتمعية السلبية, مثل الجهل والفقر, بحيث تحولها إلي عناصر قوة داروينية هائلة, ضد مسار الثورة. النموذج الزاعق للفعل المضاد يتمثل في تعبئة ميدان التحرير, في جمعة29 يوليو, بالعديد من مظاهر التطرف, والتشدد. وذلك علي عكس المتوقع من أطراف الشارع السياسي, الثوري, أو حتي التقليدي. وفي ظل التلكؤ الاستراتيجي, تصاب الثورة المصرية ب الشرخ. وإذا كانت حيرة الناس من غياب الانعكاسات الإيجابية المتوقعة للثورة, سواء علي وحدات العمل, أو علي أمن الشارع, تمثل مداخل لهذا الشرخ فإن المدخل الأكبر يتعاظم الآن بإنشغال قوي الثورة, بالانتخابات, عن الاستحقاقات( أو الواجبات) الأساسية التي تتطلبها الثورة. الاشكالية هنا, لا تتعلق بمسألة إجراء الانتخابات في موعدها, ولا بتاريخ عودة المجلس العسكري إلي مهامه الأصلية, إنها تتعلق بتناسي اللزوميات الأساسية للثورة, والتي لم يكتمل التعامل بشأنها بعد. علي رأس هذه اللزوميات تجيء مسألة إنجاز الطلبات الإجرائية الخاصة بالثورة( مثل الطلبات التي جري إعلانها في أعقاب خلع الرئيس السابق). وتجيء كذلك عملية تحديد سقف للثورة, حيث لايمكن لأي إجراء بذاته( مثل الانتخابات) أن يمثل سقفا للثورة, وذلك باعتبار أن السقف الطبيعي يتعلق بوصول البلاد, شعبا ومؤسسات, إلي إمكانية عملية لإحداث التقدم, ولمواجهة مشكلاته, تلقائيا, وبدون الحاجة إلي ثورة. بعد ذلك تأتي لزومية رسم معالم الخطوات المفترض إنجازها وصولا إلي هذا السقف. وهكذا في ضوء ما جري ذكره عن التلكؤ الاستراتيجي, يبزغ سؤال مصيري حرج, يحتاج إلي وجود إجابة رئيسية,( واحدة) بشأنه, عند كل من قوي الثورة والمجلس العسكري. السؤال يقول: هل تم التوصل الجماعي الواعي إلي رؤية( و/أو خطة) مشتركة, للحفاظ علي التناغم( أو التوافق) في أرض الواقع, بين لزوميات الثورة من ناحية, ومسار الانتخابات, وما بعدها, من ناحية أخري؟؟؟. هكذا الأمر إذن. الثورة المصرية( العظيمة)ليس, ولايمكن أن تكون مجرد شيء ما( جزئي) بذاته. إنها ليست أبدا مجرد التظاهرات, أو الانتخابات, أو المحاكمات, أو الاستفتاءات أو الإضرابات, أو الاعتصامات, أو قرارات, أوبيانات, أو خطط أو الضغط للتغيير في قيادات حكومية عليا.. إلخ, كل من هذه الإجراءات والمطالب لايعدو أكثر من جزئية, وجميعها لاتعدو مجرد جزئيات, لاتكون لها مخرجات ذات قيمة ثورية بحت, ما لم تتسق وتتناغم مع بعضها. دون الاعتبار, أي مع تفتت الثورة إلي جزئيات غير متناغمة من الاجراءات والمصالح, تتحول الثورة إلي مخرجات غير مترابطة. المزيد من مقالات د : محمد عبد الرؤف حامد