مشهد الشوارع المدججة بقناصة الأمن السوري يصوبون الرصاص الحي باتجاه متظاهرين عزل, وأطفال ماتوا بوحشية, وجثث في مقابر جماعية, وبلطجية وأمن سري ينهالون علي مواطن بالهراوات والركل لكمات علي الوجه وصفعات علي القفا, مشاهد لا تعرف إذا كان الهدف منها إذلال الضحايا أم إدانة جبن الجناة, مشهد جنود الجيش العربي السوري المحتلة أراضيه منذ عقود, مجتمعين حول طرائد من شباب الثورة السورية مكبل الأيدي, وملقي علي الأرض علي وجهه عاجز بلا حيلة, بينما الجنود يرقصون بأحذيتهم العسكرية علي جثثهم طربا, ويضربونهم بكعوب البنادق, وهم يتيهون تيها وخيلاء. وخلفهم أرتال المدرعات والدبابات تندفع من حمص إلي درعا, ومن درعا إلي إدلب, وريف دمشق, والقامشلي ودير الزور والحسكة, وكأنها تسابق الزمن, كي تنال شرف المشاركة في معركة تحرير الجولان, لنكتشف أن مهمتها اقتحام القري والمدن وقصف البيوت والمآذن. مشاهد تصيب بالصدمة والفزع, وتعتصر القلوب بالحزن علي الضحايا والغضب من القسوة والدم البارد الذي ترتكب به الجرائم. في ستينيات القرن الماضي أكتفت السلطات العربية بالتنكيل بخصومها من سياسيين ومثقفين كل جريمتهم الاختلاف الفكري أو الطائفي, أو العرقي, كان ذكر أسماء مثل سجن القلعة أو سجن المزة في سوريا وأقبية سجون بغداد يثير الرعب في النفوس, في السبعينيات شاهدت شخصيا أولي المشانق العلنية التي نصبها القذافي في ميادين بنغازي, لطلاب كل جريمتهم أنهم نجحوا في انتخابات اتحاد الطلاب بالجامعة ضد لائحته. في بغداد سمعنا عن معارضين سملت عيونهم, ونزعت أظافرهم, وجثث وضعت في أحماض لتتلاشي, وتوج الأمر بإعدام عشرين شابا غير معلوم جريمتهم, كان الهمس يدور في بغداد وأربيل والبصرة مشوبا بالخوف يتسلل إلي أعماق النفوس. وفي كل هذه الوقائع لم تتكتم السلطات الأمر, بل روجت له, فحصلت علي مبتغاها من ترويع المواطن وجعله يكره السياسة, ويسير- كما قيل أيامها- بجوار الحيط وإلا يكون مصيره وراء الشمس. في الثمانينيات أتت هذه السياسية نتائجها وتمكنت من نشر الخوف والهلع والرعب بين الناس, وقضت علي قوي المعارضة السياسية, وحدهم أتباع السلطة الحاكمة, الذين ضمنت صمتهم عن جرائمها, والتمرغ في نعيمها. لكن متي تحولت النظم العربية الاستبدادية إلي الدولة البوليسية القمعية والتي جعلت من المواطن العادي هدفا مباشر لعمليات التعذيب والإهانة؟ ومن الذي نصح بذلك؟ هذا ما سوف يجيب عليه التاريخ. لكن من غرائب التاريخ أيضا; أن هذه السياسات المشينة الموجهة بصورة مباشرة ضد المواطن العادي- بجانب اسباب أخري- هي التي أثمرت ثورة الحرية التي تعم الشعوب العربية الآن. لكن أشد أنواع الفظائع التي يحفرها التاريخ في ذاكرته, هي الجرائم المرتكبة ضد الجماعات والشعوب, والتي تأخذ أشكال العقاب الجماعي. وهو ما يمارسه بشار الأسد ضد الشعب السوري الأعزل, فمن بين الثورات العربية وحده ينفرد بتعذيب الأطفال دمويا, ووحده ينفرد بقطع حنجرة مغني غني للثورة, ووحده بنفرد بتهشيم أصابع رسام هاجم عنف النظام وطالب بالحرية, وحده من أطلق البلطجية والأمن والجيش مسلحين بالرشاشات والمسدسات, إلي المدن والقري ذئاب نهمة لدم المتظاهرين العزل, وحده الذي توج أساليبه القمعية باستخدم قطعات الجيش العسكرية المدرعة ضد الشعب الأعزل, وهو ما سيظل سبة عار تلتصق به وبنظامه, وما سيجعله يدخل ذاكرة التاريخ كأحد أصحاب أعمال العنف القصوي التي يمارسها الطغاة ضد شعوبهم. ووحده الذي لاقي مساندة, وصبرا دوليا لم يلقه غيره, إلا أنه تعامل مع تلك الهبات وكأنه طفل يعتوره النضج الانساني والسياسي, طفل سعيد بألعابه من أرتال المدرعات والدبابات والسفن الحربية. فما الذي لم يدركه السيد بشار الأسد؟ ما هو الغائب عن فهمه؟ أولا: لا يكف السيد بشار الأسد عن القول بأن الدولة ينبغي ألا تقبل بضغط الشعب, والذي لا يدركه أنه منذ اللحظة التي أحرق فيها بوعزيزي نفسه في قرية سيدي بوزيد, فقد أحرق معه مفهوم بشار عن الدولة التي تعلو الجميع, وأطلق بين الشباب العربي مفهوم دولة السيد الأول فيها هو المواطن وليس الرئيس, تقدس حقوقه ويمتنع عليها إيذاؤه بدنيا أو نفسيا أو المساس بكرامته, ثانيا: الميزة التي يتمتع بها السيد بشار الأسد بين الرؤساء المطاح بهم, والتي جعلت له شعبية بين بعض المثقفين العرب, هي استخدامه لغة من معادلات رياضية تبدو في ظاهرها منطقية, لم تعد لها قيمة أمام حقائق الثورة. عندما قامت الثورة في مصر هلل الإعلام السوري وصرح بأن سياسات كامب دايفد هي سبب الثورة المصرية, والذي لا يفهمه أن الثورة المصرية والعربية, خرجت هذه المرة من أجل كرامة الانسان وحريته, بما فيها حقوق السيادة والكرامة الوطنية, وأن هؤلاء الشباب صاروا يعلمون يقينا أن الديمقراطية وليس الاستبداد هو الذي سيتيح لهم استعادة كرامة الوطن. ثالثا: الموت ولا المذلة صيحة الشعب السوري وصيحة الشعوب الخالدة. وما لا يدركه السيد بشار أن استباحة دم الشعوب التي ذاقت طعم للحرية, وكسرت جدار الخوف, لا يجلب سوي مزيد من الدم. رابعا: ما لا يدركه بشار الأسد أن القناع الذي تحصن داخله تحت مسمي دولة الممانعة قد سقط, أمام المفارقة بين استخدامه الجيش في مواجهة الشعب السوري ووقوفه ساكنا أمام الاحتلال الإسرائيلي للجولان والذي سيظل وصمة إدانة لن تستره كل ألاعيب اللغة المنطقية. أخيرا: أهم الحقائق غير المدركة أن الثورة العربية قد اسقطت وهم التوريث, وأن عقد ملكية السيد بشار الأسد لسوريا الذي توارثه الأبن عن الأب, قد سقط وأصبح لاغيا, وأن عمليات القمع المتواصلة محاولة يائسة منه ومن أسرته للإبقاء علي ملكية سوريا في ثوب جمهورية وراثية. تستند الي تميز طائفي, وأيديولوجية قومية ينجم عنها تميز موجه ضد بقية الطوائف والأعراق, ذلك أن عصرا جديدا قد بزغ, وعليه أن يرحل ليختار الشعب بحرية قيادة سياسية تحترمه, ويحاسبها إن أخطأت, وأن الدولة العربية عليها أعباء هائلة كي تعيد بناء ما دمر من دولة المساواة والقانون والديمقراطية, المزيد من مقالات فتحى امبابى