عندما تتعالى الأصوات ومعها "شواكيش" هدم الأسوار وإشعال الحرائق وإقتحام السفارات والعبث بالأوراق وإختلاق البطولات الزائفة على إحدى ضفاف نهر النيل.. فى الوقت الذى لازال يجلس فيه العشاق على الضفة الأخرى من نفس النهر.. يتسامرون ويتبادلون الورود.. تجمع بينهم الهمسات والتحليق في عالم آخر خارج حدود الزمان والمكان فأنت أكيد فى مصر. عندما تعم البلطجة وترتفع أعيرة الطلقات ويتباهى البعض بحمل السلاح الذى تتناوله أيدى الأبناء تحت سمع ومرأى الآباء وعندما يتحول البلطجى فى بعض الأحوال إلى بطلً.. والجانى إلى مجنى عليه.. بينما نرى فى نفس الوقت شيوخاً طيبين يعيشون ويعملون حتى آخر نفس من أرواحهم فوق أرض المحروسة.. ومعهم سيدات تركع وتسجد داخل ديارها.. تُعلم وُتربى.. تدعوالله.. وتتباهى بأخلاق الأبناء وصبر الأجداد وتحمل لواء الكرامة والعزة والشرف.. فأنت بالتأكيد فى مصر.. عندما يقوم شعب بثورة بيضاء فى أيام عدة.. تتآلف فيها القلوب والأبصار.. تعود بنا إلى أصل حضارتنا وحقيقة معدننا وعزائم إرادتنا.. ثم تأتى بعدها "فقاقيع" نفخنا فيها بأيدينا وأيدى آخرين لتطفو وتعلو وتركب فوق أكتاف كل هذا الشعب وتسير به إلى منحنيات وعرة ومسارات لانعرف نهايتها يختلط فيها الدم بالعرق.. وفى الوجه الآخر أغلبية عادت صامتة تنظر وتتلفت حولها.. تأسى وتتألم.. تخشى أن تقوم بفعل درءاً لمزيد من الفتنة أو فزعاً من المجهول أو حتى خوفاً من أصحاب الصوت العالى فأنت بالتأكيد فى مصر! عندما تأمن لمن تتركهم لإدارة البلاد وتطمئن إليهم ثم تثق فى قدرتهم حتى تعود إلى عملك على أمل أن تبدأ عهداً جديداً مفعماً بالعمل والتفاؤل والرجاء فى مستقبل أفضل لك وللأبناء ثم تكتشف فجأة "ضبابية" كثيفة تختلط أمامك فيها الأوراق وتتبعثر فيها الآمال الى خوف من مجهول وهلع من الإنفلات وضياع الأمن.. قلة الرزق وغلاء العيش وإنكسار هوية الضمير لدى الكثيرين فأنت أكيد فى مصر! عندما يتباكى بعض المثقفين ورفقاء النخب وقادة الرأى رافعين شعار الوقوف إلى جانب المظلومين والمعدومين.. قاطعين لأوصال الظالمين الفاسدين مصاصى دماء الفقراء.. ولكنك تكتشف أن أصحاب هذه الشعارات أول من يسكنون القصورالتى بنوها فى العهد الماضى ويرتعون فوق أراض إمتلكوها إنتفاعاً من نفس الظالمين بعد تداخل المصالح والطموحات والقدرات بينهم ولأن هؤلاء هم أول الناجحين فى ركوب موجة الثورة والثوريين.. فأنت أكيد فى مصر . عندما تتوقف حياة أمة وشعب ويصاب إقتصادها بالشلل إنتظاراً لمحاكمات حفنة من أناس ظلمونا واستولوا على بلدنا وجعلوها حكراً لهم ولأبناءهم بيدهم وأيدينا أيضاً بصمتنا عليهم كل هذه السنوات.. وعندما تبقى عقول بعضنا وأرواحهم فدءاً لتأييد رئيس سابق عفى عليه الزمن فى مواجهة فريق آخر يقولون أنهم ثوريون وجاءوا للقصاص من الرجل وأبناءه وحوارييهم فيدور الفريقان فى دائرة معارك يندى لها الجبين بين أبناء الوطن الواحد ليشاهدنا القاصى والدانى ساخراً منا وفارحاً فينا.. هنا أنت أكيد الآن فى مصر. عندما يتحول بعض الشباب إلى مالكين لملايين الدولارات من أطراف أجنبية لأنهم سيدونون بقلمهم "المعجزة " سطوراً حول ثورة شعب. وتتحول "أم الفلول" الى "راعية الثورة" ويلتقى رئيس الوزراء شاباً خرق القوانين الدولية بنزع علم دولة من سفارة لها على أراضينا حتى لو كانت هى العدو الأول لنا ويتحول الشاب فى لحظات إلى بطل حطم خط بارليف الحصين وأكثر.. فأنت أكيد فى مصر عندما تبكى بكاءاً مكتوماً وتتألم نفسك وتتحجر الدموع فى عينيك.. وعندما تشعر فى أوقات كثيرة أن بلدك التى تعشق ترابها تتهاوى وأركانها تتزلزل تحت قدميك وأن أياد خفية تتحرك فيها.. نراها ونشعر بها لكننا لانستطيع الإمساك بها وإن أمسكنا بها نكتشف أنها سراب.. فأنت أكيد فى مصر ! المزيد من مقالات حسين الزناتى