كنت أتصور أن سياسة الحظر والمنع والرقابة قد اختفت إلي غير رجعة من التليفزيون المصري بعد الثورة, لكني اكتشفت أنني كنت مخطئا في تقديري. فقبل بداية شهر رمضان المبارك قمت بتسجيل ثلاث حلقات من برنامج فتنة مع الأستاذ الكبير جمال البنا أدارتها باقتدار المذيعة دينا فاروق, وكان المفترض أن تبث الحلقات الثلاث علي قناة دريم خلال الشهر الكريم. لكني فوجئت بأن القائمين علي القناة أصدروا قرارا بمنع إذاعة إحدي هذه الحلقات الثلاث, استنادا إلي معايير لا تختلف كثيرا عن تلك التي كانت تحكم الإعلام المصري في عصر صفوت الشريف وأنس الفقي, وهو العصر الذي أسهم خلاله الإعلام في تخريب عقل الإنسان المصري وإثارة الفتنة وإشعال نار الفرقة بين أبناء المجتمع وكان من أهم أسباب اندلاع ثورة 25 يناير. والحلقة التي شملها قرار المنع كانت تدور حول عدة محاور من بينها قضية الحجاب. وقد انبري الأستاذ جمال البنا مؤكدا أن الحجاب ليس فريضة من فرائض الإسلام. ولأن الأستاذ البنا يعد من العلماء المتعمقين في الدين والشريعة وكرس حياته لدراستهما, وهو فوق هذا الشقيق الأصغر لمؤسس جماعة الإخوان المسلمين الشيخ حسن البنا, فلم أسمح لنفسي بأن أعلق علي رأيه, وقلت علي الفور إنني لست فقيها ولا عالما في الدين, لذلك فلا أستطيع أن أعطي رأيا فقهيا في موضوع الحجاب علي الرغم من أن كل من هب ودب يفتي في هذا الموضوع ويستشهد بآيات وأحاديث لا يفهم معناها لتأكيد أن الحجاب مسألة حياة أو موت بالنسبة لأمة الإسلام. وأضفت أنه بوسعي مع ذلك أن أربط بين الحجاب وبين ظواهر المد والجذر السياسي والاجتماعي في مصر خلال القرن العشرين. فخلع الحجاب في بداية العشرينيات من القرن الماضي علي يد هدي شعراوي وزميلاتها كان في عقب ثورة 19 التي فجرت شحنات كانت مكبوتة في الضمير المصري الذي كان يصبو وقتها إلي الاستقلال والتحرر ورفض الخضوع للأعراف البالية. أما عودة الحجاب في بداية السبعينيات من القرن العشرين فقد اقترنت زمنيا بهزيمة 1967 وكانت في الواقع نتيجة مباشرة للنكسة العسكرية التي كانت بمثابة زلزال هز كيان الأمة من جذوره ولازال المجتمع المصري يعاني من توابعه إلي يومنا هذا. وأوضحت أن عودة الحجاب بهذه الصورة وهيمنته علي العقول وارتفاعه في سلم أولويات المجتمع فوق كل الاحتياجات الأساسية هي في رأيي نتيجة مباشرة لثقافة الهزيمة الناتجة عن النكسة ويوم 5 يونيو المشئوم. وعندما انتقل الحديث عن مظاهر النفاق في الدين طلبت الكلمة لأقول إنه منذ أن هيمن أصحاب الفتاوي علي شاشات التليفزيون وعلي الإعلام المصري بصفة عامة وتم منع كل من يتصدي لهم من الكلام في عصر مبارك الميمون, أصبح التخويف والترويع باسم الدين سمة من أهم سمات المجتمع. وأعطيت أمثلة ملموسة من الالتفاف حول الشريعة من أجل الاستمتاع بالحياة الدنيا, ومنها موضوع المحلل الذي يؤثر الجميع تجاهله مع أنه مثال صارخ للخديعة وإلباس الباطل ثوب الحق. ومعروف أن الدين يحرم الطلاق أكثر من ثلاث مرات متتالية, لكن العقول الملتوية التي ترائي في الدين قامت باختراع نظام المحلل, وهو يتناقض صراحة مع تعاليم الدين, حيث إن ذلك الرجل الذي يتزوج علي الورق لا يدخل بالزوجة ولا يعاشرها وهو وضع مخالف للشرع. كذلك الزواج العرفي يعد نوعا من التحايل علي الدين, حيث إن الركن الأول للزواج الشرعي هو الإشهار. مثال ثالث طرحته في نهاية تدخلي حول النفاق في الدين وعنوانه جملة شهيرة تنطلق من فم القاضي بعد النطق بحكم بالإعدام وهي.. وتحويل أوراقه إلي المفتي وهي عبارة ترددت عشرات المرات في الأفلام السينمائية حتي أن الأطفال يحفظونها عن ظهر قلب. وتحويل أوراق المحكوم عليه بالإعدام إلي المفتي له معني ضمني واضح وهو أن تنفيذ الحكم يتم في إطار الدين وبالتوافق مع الشريعة الإسلامية. لكن الحقيقة تختلف عن ذلك. فهناك بعض الاختلافات بين الشريعة والقانون الوضعي في بعض الأحكام الخاصة بالإعدام. ففي الشريعة الإسلامية لا يقام حد الإعدام علي الأب الذي يقتل ابنه, في حين أن قانون الجنايات في مصر يقضي بإعدام الأب القاتل. ولو افترضنا أن المفتي قرر أن يبدي اعتراضه علي إعدام الأب القاتل عندما يتم تحويل أوراق القضية إليه فإن المحكمة لن تأخذ بهذا الاعتراض ويتم تنفيذ الحكم بالفعل علي الأب القاتل. وقد وافقني الأستاذ جمال البنا علي مختلف الأمثلة التي سقتها للتدليل علي مرض النفاق في الدين الذي يسري منذ عقود في جسد المجتمع المصري. ومنع هذه الحلقة من البث علي قناة دريم هو انعكاس لواقع أليم وهو أن الثورة لم تغير العقلية الحاكمة في مصر, وإذا كان مبارك وأعوانه قد تركوا السلطة فالمجال مازال مفتوحا علي مصراعيه لأصحاب الفتاوي ومن يزورون الحقائق ويستخدمون الدين لأغراض سياسية ودنيوية في الوقت الذي يتم فيه تضييق الخناق علي كل من يحاول أن يكشف الجانب الآخر من الحقيقة. المزيد من مقالات شريف الشوباشي