نظم معهد المخطوطات العربية بالتعاون مع معهد البحوث والدراسات العربية الأسبوع الماضي فعالية ثقافية مشتركة بعنوان "ناصر الدين الأسد: مشروع فرد، مشروع أمة"، وذلك في إطار المنتدي التراثي والموسم الثقافي للمعهدين، شارك فيها الدكتور محمد محمد أبو موسي، الدكتور صلاح فضل، والدكتور خالد زيادة سفير لبنان بالقاهرة، جاءت هذه الفعالية بتوجيه من الدكتور عبدالله محارب المدير العام للمنظمة، تقديرًا للقامة الفكرية والعروبية الإسلامية التي يمثلها الدكتور الأسد والذي يُعد أحد الأعلام الكبار في القرن العشرين، وامتد به العمر حتي ناهز التسعين، ورحل عن دنيانا في 21 مايو 2015. أن الأسد أثري الحياة الفكرية والثقافية والأدبية العربية، وترك 74 عملاً ما بين تحقيق وتأليف ودراسة وترجمة، كما أسس عددّا من المؤسسات البحثية والأكاديمية، منها تأسيسه للجامعة الأردنية التي رأسها مرتين، بالإضافة إلي شغله مناصب ثقافية مهمة في الجامعة العربية في خمسينيات القرن الماضي وفي المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم في الستينيات والسبعينات، منها المدير العام المساعد للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، وكان أستاذًا في معهد البحوث والدراسات العربية في تلك الحقبة، وفي الثمانينيات كان عضوًا في المجلس الاستشاري لمعهد المخطوطات العربية. افتتح الندوة؛ التي صاحبتها مجموعة من الصور المتنوعة من حياة ناصر الدين الأسد وكتبه، الدكتور فيصل الحفيان مدير معهد المخطوطات العربية بالإشارة إلي أن الدكتور الأسد انشغل بالأسئلة الكبيرة التي تتوقف عليها النهضة ولا تقوم التنمية إلا بها، مثل أسئلة تطوير التعليم، وإشكاليات اللغة والإبداع، العلاقة بالتراث. ثم أعطي الكلمة للدكتور صلاح فضل، الذي تحدث عن نشأة الدكتور ناصر الدين الأسد العلمية، وتكوينه المتميز باللغة الإنجليزية في الكلية العربية بالقدس، وعرج بعدها علي علاقة الأسد بمحمود شاكر وطه حسين، وأن رسالته في الدكتوراه كان منشأ فكرتها هو الرد علي كتاب في الشعر الجاهلي لطه حسين، إلا أن وده الدفين لطه حسين أغضب عليه شيخه محمود شاكر، الذي فتح له مكتبته، التي ساعدته علي كتابة رسالته للدكتوراه . فقال عنه فضل: "المنطلق الديني عند الأسد هو المنطلق المؤسس للوعي والمعرفة العلمية، ويقوده ذلك إلي ما يطلق عليه تعقل سنن الكون، وهو ما يترك باب العلم مفتوح علي مصراعيه، وبداية العلم العربي لديه تتمثل في علوم القرآن والسنة وفقه العلوم الشرعية، ثم في علوم اللغة العربية، ويتصدي ليصدر حكم أخالفه فيه، حيث يقول أن هذا التأسيس الأصيل للفكر العلمي الإسلامي هو الذي حمي الثقافة الإسلامية العربية من أن تذوب في الثقافات الأخري وأعطي لها طابعها المميز، وجعلها عندما قامت بالترجمة بعد ذلك في مراحل متأخرة تحتفظ بشخصيتها كاملة بين الثقافات القديمة، أي أنه بوضوح شديد يعزو القوام الصلب للغة العربية إلي أنه أرتكز علي المرتكز الديني بالدرجة الأولي، مما جعل هذه الثقافة العلمية العربية تتميز بصفاء النشأة وخلوها من المؤثرات الأجنبية، وهذا حوله جدل كبير، ولكن بالرغم من بعد د.ناصر قليلا عن خط الشيخ محمود شاكر، إلا أنه ظل أمينا له، فأجد لديه عرق سلفي أصيل"! واستكمل فضل: "الفكرة الثانية، أن د.ناصر لم ير أن العرب هم من اخترعوا مفهوم العلم لديه، فقد استقاه العرب وأضافوا إليه ولكنه لم يكن عربيا، كما اشترك د.ناصر في تأسيس معظم الجوائز العربية الكبري، تبادل، إما يحصل عليها ويشترك في تحكيمها، أو يشارك في تحكيمها ثم يتنحي ويحصل عليها، كان ذلك دليلا علي بروزه كشخصية في الصف الأول بين المثقفين العرب في كل الأقطار، ومعني ذلك أنه أسهم في صناعة السلطة الأدبية في العالم العربي، وكان بعيدا بحكم هذا التكوين العلمي المستنير عن كل التيارات اليسارية، لكنه كان يتقبل الحداثة بصدر رحب، فالكاريزما الشخصية والحضور الثقافي والتأثير الحقيقي في كل الأوساط التي تحرك فيها الأسد ضمنت له مكانة في قلوبنا جميعا وأرجو أن نتوارثها خلال الأجيال القادمة، فهناك أشخاص يصنعون مدارس وأجيال أكثر مما يخلفون أوراق". أما الدكتور أبو موسي فقد وقف طويلاً عند كتاب الأسد "مصادر من الشعر الجاهلي وقيمتها التاريخية" ونوه بجهده ومثابرته وتنقيبه عن المصادر، وأشاد بغيرة الدكتور الأسد علي العربية ومناصرتها وإحيائها وتصحيح الحديث عنها، وبدأ حديثه: "حينما نتكلم عن ناصر الدين الأسد الذي أفضي إلي ربه ولا يصله منا إلا الدعاء، يؤسفنا أن من مثله يذهبون وليس لهم بدائل وتبقي أماكنهم شاغرة، وكان من الواجب علي علماء الأمة وعقلائها أن يدرسوا هذا الشأن، لأن ذهاب الكفاءات نذير خطر لهذه الأمة، كان أهل الجاهلية القدامي قبل الإسلام بزمان يذكرون أنه إذا غاب منهم كوكب ظهر فيهم كوكب، لأنهم لا يقبلون أن تغيب نجومهم وكفاءاتهم وتبقي أماكنهم خالية". واستطرد أبو موسي: "الذين يقرأون كتب الأسد يجدون شخصية لحوحة، مولعة بالقراءة ومساءلة الكتب والتراث والعلوم بطريقة مذهلة، ظهر ذلك بينا في رسالتيه عن الشعر الجاهلي، ليس لناصر الدين الأسد آراء فيما كتب، وإنما كشف المخبئ في المصادر والكتب التي بين أيدينا، والذي أذهلنا بالنتائج التي قالتها ونحن لا ندري، إنه العمل العلمي الدؤوب الذي كان يتميز به، وأري أن الجيل الجديد من الباحثين يجب أن يطلع علي أبحاثه، ليعرف كيف كان يقرأ الكتاب المطول ليستخرج منه نصا واحدا، فقد كانت عناية المرحوم الأسد بالشعر الجاهلي مبكرة، كان مولعا بحفظ الشعر وخاصة الجاهلي، وكان يجد في نفسه له أثر لم يجده لشعر العصور التي تلته، كان علم قوم لا علم عندهم سواه، صار أساسا في فهم الحديث والتفسير والنحو وهكذا، فهو مصدر من أهم مصادر الثقافة العربية، وقد أجمع العلماء علي أن الشعر الجاهلي ليس عندنا بيان بعد كلام الله والرسول صلي الله عليه وسلم أعلي منه، لأن الله سبحانه وتعالي جعل عجز هذا الجيل حجة علي الأجيال من بعدهم". وواصل أبو موسي: "يتميز الطالب ناصر الدين الأسد بأنه لم يعتقد تفوق الشعر الجاهلي بناء علي ما أجمعت عليه الأمة، وإنما عوّل علي ذائقته هو البيانية، وأنه كان يجد لهذا الشعر ما لم يجده للشعر في العصور التي تلته، وهنا أجد شبه بين الأسد ومحمود شاكر رحمهما الله، في مسألة الإحساس بتفوق الشعر الجاهلي، ولا أعني مطلقا أن الأسد قلده، لأن من يقرأ له يعلم أنها عقلية عاصية علي التقليد، وشيء آخر من هذه المقاربة، هو صدمة شاكر والأسد بكتاب مصادر الشعر الجاهلي لطه حسين، فقد زاد هذا الكتاب حرص الأسد علي المزيد من التعرف وأن يجد في نفسه وعقله ما يقنعه أن ما قاله طه حسين غير صحيح، لأن إحقاق الحق عند هذا الجيل كان لا مفاصلة ولا مجاملة فيه، ويذهلني أن يبقي الود والحب بينهم، لقد كان هذا الجيل يتميز بالتفرقة بين الاختلاف في الرأي والاتفاق النفسي والروحي، مات الأسد وهو مقر بأستاذية وحب طه حسين، وكذلك محمود شاكر، الذي رثاه بعد وفاته". اختتم أبو موسي حديثه عن الأسد واصفا إياه: "كان بذكائه المفرط يبحث عن المنطقة الغائمة المغشاة بالضباب ويعيش فيها ليكشف لها الغاشية، فروح ناصر الأسد في استقصاء المصادر والمراجع واستخراج النصوص، هو من هؤلاء الناس الذين يبحثون عن المناطق الملتبسة ويعيشون فيها ليزيلوا لبسها، فقد فسر ناصر الأسد الأمية تفسيرا غير الذي في أذهاننا، وهو أن أمة أمية هم من لا كتاب له، وحين سئل عبدالله بن عباس عن معني الأمية قال أنهم قوم لم يصدقوا رسولا أرسله الله ولا كتابا أنزله، ويكتبون الكتاب بأيديهم ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله، فكان معني الأمية لا تتنافي مطلقا مع الكتابة، ونحن فهمنا أن الأمية هي عدم الكتابة، هذا غير صحيح، كما أن من أهم ما حرص الأسد علي إثباته في القيمة التاريخية لمصادر الشعر الجاهلي أن القول بأن العرب لم يكونوا يقرأون، فقد استخرج من كتب العلماء التي بين أيديه أن القراءة كانت شائعة في الجيل الذي نزل فيه القرآن، فالأمية في زمننا هذا أكثر منها في الأمة التي نزل فيهم القرآن". أما السفير اللبناني الدكتور خالد زيادة، فقد ألقي الضوء علي جانب آخر من شخصية الأسد هي رؤيته الحضارية وخطه الفكري التقدمي، وتوجهه الإصلاحي الذي يدعم القومية العربية المعتدلة، التي لا تلغي القوميات الأخري، فقال: "لقد كان الأسد هو الوجه الأدبي والتربوي للأردن، وإذا كان قد تقلد في مناصب عديدة منها السفارة والوزارة، فإنه كان علي الدوام الرجل التربوي مدرسا وأستاذا وعميدا، نشأ في خضم النقاش الفكري والثقافي، وظل أمينا لتراث الإصلاحية العروبية الذي أطلقته الثورة العربية الكبري، كانت تلك الثورة التي أطلقها الشريف حسين الهاشمي في مكة عام 1916 والتي شارك فيها سوريون وعراقيون ولبنانيون ومصريون قد أعادت الاعتبار للعروبة، هذه العروبة المتصالحة مع الإسلام، هذه هي البيئة الثقافية والسياسية والفكرية التي نشأ فيها ناصر الدين الأسد، ولعل إسهامه كان في الإحياء الأدبي واللغوي قبل كل شيء آخر، ومع ذلك فإنه كأحد أبناء هذه المدرسة الإصلاحية العروبية فقد نظر إلي العروبة علي أنها إرثا حضاريا وتعبيرا عن الشخصية العربية وليست دعوة سياسية، وإذا كان الأسد آمن بأن الإسلام هو أحد أبعاد العروبة، فكل مسلم هو عربي بالمعني الثقافي وليس كل عربي مسلم بالمعني الديني، وكذلك كان إسلام الأسد، إصلاحي لا سياسي". المنطلق الديني عند الأسد هو المنطلق المؤسس للوعي والمعرفة العلمية، ويقوده ذلك إلي ما يطلق عليه تعقل سنن الكون، وهو ما يترك باب العلم مفتوح علي مصراعيه.