ألف الوجود نعرفه جميعا نحن الاحياء وليس لنا أن نعرف نقيضه. أما هذا النبات الاستوائي فلا اعرف اسمه في لغتنا ولكنه في الانجليزية " Zinzabar Gem" وفي الفارسية زاميفوليا ولو بحثنا عن ترجمة حرفية لاسمه الشائع في الانجليزية لانتهينا الي " زهرة زنجبار". نبات قلّما يحتاج الماء. يزدهر وزهوه المدهش هو التعايشُ مع العطش. ربما لأنه نجا من كوارث جمّة ويعرف أن الكارثة قادمة لا محالة ! جاء بهذه النبتة صديقي الشاعر عازف الناي الذي يسير علي حبل مديد بين قمتي العقل والجنون. لا أريد أن أسميه ولا أن أحاول وصفه فأنا واثق من أنه سيكون مختلفا حين أراه في المرة القادمة، يجاهد مصحّحا نفسه أو مبيّنا اختلافه. كانت هدية منه قدمها لي فحملتها ووضعتها في ركن ظليل من المكتب مقابل لبلابة كنت احضرتها معي وهي فرع من نبتة مازالت تنمو قريبا مني في البيت منذ عشرين عاما. قال صديقي ان النبتة التي جلبها تجلب الحظ معها وهنَّأني علي المكتب مضيفا أنه يدرك كونهما هدية وتهئنة متأخرتين. كانا كذلك بالفعل فقد مضي علي افتتاح المكتب عامان من العمل المضني ومكابدات القانون وبيروقراطية الدوائر من جهة والناس وغرابة بعضهم من الجهة الأخري. كان صديقي يبدو متعبا و لا أعني تعبا جسديا فهو في أوج قوته وبإمكانه أن يقف علي رأسه لساعات مثل عمود أو ربما قصبة بريّة تنتظر دورها في مشغل صانع نايات. لكنه بدا مرهقا بطريقة ما . قلت له إنني ايضا أحس بالتعب ولكن لا بد من مواجهة مسئوليتنا بعد ان اخترنا او تورطنا بالابوة. ظل صديقي يكرر مديحه لجوهرة زنجبار. سحرتني النبتة اليانعة بعنفوانها وتهادت براري وسواحل افريقيا في خيالي وانا أسمع حديثه عن قدرتها علي مكابدة العطش. قلت له إننا كائنات تكابد وتراوغ اليباب. غادر صديقي وكنت أخشي عليه الجنون. نحن نركض في غابة الوجود؛ هذا التشابك المعقّد بين الذاتي والموضوعي والثنائيات اللامتناهية. اذا دخلنا جحر العقيدة تورطنا في كبح جماح غرائزنا وعقولنا وسنظل حتما نبحث عن مخابئ لن تنتهي لخنق نزوعاتنا. وإذا تحرّرنا دخلنا متاهة الكون حالمين بالحصول علي الحقيقة الكبري. الذين ييأسون يتوقفون ويتغابون ويكونون مثل الذين يقيمون بيوتا لهم وسط سوق أو مثل الذين يشيدون صومعة في ميدان حرب أو ملجأ في بطن بركان . عليهم ان يعتادوا النظام وان يعملوا علي وفقه وهم يشخرون بلا احلام ولا حتي كوابيس يكفون عن الوجود مستغرقين في البلاء والفساد والموت بينما هم منشغلون بالعيش. بعد عامين من العمل اعتدت النظام وربما خضعت له بطريقة أو أخري. هكذا جردني العمل من متعة قضاء الوقت في القراءة والسماع والمشاهدة والتأليف والترجمة حتي شعرت بغربة لا تطاق عن نفسي وعوالمي وكأني ذئبٌ بريّ في ردهة الأشعة. ألوذ بسويعات عند بداية المساء وانقضاء النهار والعمل لأواصل اهتماماتي وفي الغالب أطالع وأرد وأعجب وأغضب وأسامح وأحب وأكره علي الفيسبوك. هكذا انشطرت الي نصفين واصبحت لدي ذاكرة جديدة وكأنها مستقلة مكرسة للعمل وتفاصيله بالاضافة الي تلك التي كأنها مرجل لم تهدأ منذ فتحت عيني في غابة التشابك المعقّد هذه.الانشطار مربكٌ ويجعلني انسي اشياء كثيرة. اللبلابة تصفرّ وتذوي حتي انتبه فاتقاسم معها ما في يدي من الماء. أما جوهرة زنجبار فأمسد أوراقها بأناملي وأشعر بأنها مبتهجة حانية تكابد الظمأ وتغفر لي نسياني وانشغالي كأمٍ رؤوم. ياء أقف وفي يدي اناء الماء اشرب حتي ارتوي وأحس الحياة تجري في جوفي وتنتشر في عروقي. يا للذة الماء. كلما ارتويت شعرت بأني استعد لنوبة جديدة من الحياة ومكابدة العطش. أري النبتة التي صار عمرها ثماني سنوات مزدهرةً تغيّرت مثلي ومات فيها وولد ما لا يحصي من أجيال الخلايا. أراها مبتسمة بطريقة ما أوراقها تشرئب في تحدٍ للفراغ تحاول النيل منه ومن السكون والموت والفساد. اتقاسم معها جرعة ماء نخب هذا التشابك المعقد، هذه الفرصة الفذة؛ الوجود وشهود سحر الكون. أري قطرات الماء يسفّها التراب اليابس واتخيل ما لا يعد ولا يحصي من كائنات ترضع اثداء كل جزيئة لا مرئية من الماء، أري خلايا كانت ذوت ونامت تعود اليها الحياة، تنهض وتسبّح فأهمس لنفسي " سبحان الكون " واعود الي حقل الاحلام لألهو واركّب قطع الذاكرة في لغز الوجود المحيّر بجانبي جوهرة زنجبار.