صدرت الطبعة الأولي من رواية "صنعائي" للروائية نادية الكوكباني, عن مركز عبادي للنشر, صنعاء 2013. وصدرت في طبعة ثانية عن دار الحوار باللاذقية 2015. كما وُزِّعت مع عدد مجلة الرافد لشهر مايو 2015. وهي ثالث رواية للمؤلفة بالإضافة إلي خمس مجموعات قصصية. تتضمن الرواية ملامح لواقعية سحرية يمنية من خلال توظيف الأساطير الشعبية اليمنية بالخصوص أسطورة البُدة، وحكايات الجدات، وذكريات حميد عن طفولته وعن أبيه وجدته، وتعلقه الروحي بهما. فعندما يخبر حميد جدته عن لقاءاته بوالده المتوفي، تخبره جدته بأن يسلم عليه. وحدها تصدقه فتعود بعد موتها لتستكمل له حكاياتها المدهشة كما اعتادت قبل موتها. هذه الصورالحياتية البسيطة تجعل من العادي سحراً يقودنا في حواري الواقع وتفاصيل الأمكنة لا ذلك الذي يطير علي بساط الريح. تفتتح الرواية الحكايات الأسطورية بحكاية حُجرة المَنْظر التي "تجعلك قريباً من (إل مقة) إلهك الأثير وقمرك المعبود" (الرواية). لتنثر بعدها عقد حكايات يمتزج فيها التاريخ بالأسطورة والواقع بالخرافة. من هذه الحكايات: قصة الأمير الشاب مع جنية قصر غمدان التي ولدها أبوها من دُبره وفر فزعاً فربتها منذ ولادتها شجرة. وقصة الحب التي جمعت راغب التركي بحبيبته الصنعانية في حارة الأبهر ثم اختفاؤه دون أن يعرف عنه أحد شيئاً. وقصة موت جدة حورية "التي أغرقتها جنية بركة الماء الكبيرة في القرية" قبل ولادة حورية بعامين. وقصة أشجار مقشامة حارة القاسمي التي "تمسك فروعها بالأطفال الورشين وتُلقي بهم إلي جوفها ولا تخرجهم إلا بعد أن يكونوا قد بالوا علي سراويلهم وقطعوا وعداً بطاعة أمهاتهم". والخرافات التي تروجها النساء عن قدسية الجامع الكبير. وأخيراً الصورة السحرية التي ينتهي إليها حميد وصبحية في عيون الأطفال وكأنهما مخلوقان فضائيان! لكن الأبرز توظيف أسطورة البُدات من خلال شخصية حورية. والبُدات هن نساء جميلات، قويات، مغامرات وشبقات، يتعلمن أسرار البدبدة من جداتهن وفق طقوس يمتلكن بعدها القدرة علي مسخ أي رجل إلي حمار بعد ممارسة الجنس معه. تلك الحكاية التي جعلت منها "أسطورة لتلك البدة التي سكنت بحر رجرج وجعلت نسوة الحارة يخشين علي أزواجهن منها" (الرواية). حورية في أعين النساء فتاة (مخاوية) مسكونة بالجن نظراً لجرأتها ولقيامها بأعمال منزلية تُعجز الكثيرات لدرجة جعلتهن يعتقدن أن الجن يساعدونها في تلك الأعمال. ثم تحولت "في نظرهم إلي بُدة لا يريدون إيذاءها أو تناقل أفعالها، بل العيش معها بسلام .. حتي لا تحولهم إلي كائنات أخري يمكن أن تكون أي شيء إلا أن تكون من البشر" (الرواية). تختفي حورية في نهاية الرواية. والدلالة الأولي لاختفائها تكمن في اسمها. فالحوريات يسكنّ البحار، وحورية تعيش في حارة بحر رجرج. أما الدلالة الثانية لاختفائها فرمزية: فتحوّل حورية في نظر من حولها من امرأة إلي بُدة كان بسبب قوتها وجرأتها المتحررة وتميزها عن بقية النساء بملابسها الملونة. وتحولها من بدة إلي امرأة عادية جاء مع تماهيها مع بقية النساء. واختفاؤها الغامض يدل علي تحولها من امرأة متحررة تلبس الثياب الزاهية إلي اتشاحها بالسواد. أي تحولها من امرأة يمكن تمييزها عن بقية النساء إلي واحدة تشبه الملايين في سواد ثيابها. والتحول طرأ علي شخصية حورية مرتين: من بُدة, لأنها متحررة ومميزة وترتدي الملابس الملونة, ثم إلي امرأة مثلها مثل بقية النساء اللواتي لا يمكن تمييزهن عن بعضهن البعض. ويدل هذا التحول السلبي علي خضوعها للأمر الواقع أو مسايرتها له. أو علي التأثر بالمد الوهابي, أكثر مما يدل علي توبتها عن اقتراف الخطيئة مع حميد! وقد يكون هذا الخضوع أو الهروب بسبب شعورها بأنها تحولت إلي امرأة عابرة في قلب حميد بعد أن كانت الساكنة الوحيدة فيه. وهي لا تقبل أن تكون امرأة عابرة. قالت تخاطب صبحية: "حميد أصبح لا يفرق بين امرأة عابرة بالفؤاد وامرأة ساكنة في الفؤاد. بعد أن عرفك حميد يريد تحويلي إلي عابرة، وهذا لن يكون أبداً! لن أقبل عبور حميد بعد أن عشت سكنه وسكينته" (الرواية). خروج حورية من حياة حميد يوازي خروجها من الحياة، وتحولها من بدة تلبس الملابس الزاهية إلي امرأة تتشح بالسواد جعلها امرأة عابرة كغيرها من العابرات الكثيرات في حياته. هذا علي الأقل ما فهمته حورية من تغير حميد تجاهها. واختفاء حورية فيه رمزية لاختفاء المرأة والحياة الطبيعية والجمال والألوان ويشير إلي بداية مرحلة جديدة قاتمة من تاريخ اليمن يسود فيها لون واحد ونمط واحد بتأثير من التدخل الخارجي في شئون اليمن سياسياً ودينياً واجتماعياً. من مظاهر هذا التحول في المظهر لثام حورية الذي كان "مميزاً بطريقة تظهر كحل العينين، والحاجبين المنمقين، ونصف الأنف الحاد... طريقة لثامها فيها ميوعة محببة للنفس تفصح عن جمالها الآسر... هذه الطريقة لا تروق لأغلب اليمنيين، يقولون إنها مغرية وتظهر مفاتن في الوجه المراد تغطيته، وبعضهم يقول إنها لثام النساء سيئات السمعة، الباحثات عن لفت الانتباه..." (الرواية). وعندما اتشحت بالسواد الذي يغطي كامل جسدها تحولت إلي امرأة لا يعرفها أحد. هو تحول من تعدد الألوان إلي أحادية اللون الأسود, لم يصب حورية بقدر ما أصاب المدينة والبلد بكامله. والتحول لم يطل المدينة فقط، بل والقرية. هو تحول سلبي طال أيضاً جوهر العلاقات الاجتماعية والإنسانية, فقد كانت "تربطهم مع بعضهم وشائج يمنية أصيلة تربُّوا عليها، وربوا أولادهم وبناتهم عليها. لا يتلصص أهل المدينة علي بعضهم البعض، بل العكس، يغيرون علي بعضهم البعض في الفرح وفي الحزن". كل هذا سمعته صبحية من أمها ولم تجده "إلا بشكل نادر لدي بعض كبار السن وعلاقتهم الإنسانية بنساء وبنات المدينة..." (الرواية). وتستطرد صبحية مُقارِنة بين جيلين: "شتان بين جدتي التي ربت أمي بذلك الهدوء والصراحة, وبين أمي التي تركت المدرسة والصديقات يقمن بدورها" (الرواية). وشتان بين صنعاء القديمة حيث الجمال والهوية المعمارية المميزة وبين صنعاء الجديدة التي تحولت إلي مدينة أخطبوط إسمنتية بلا هوية معمارية ومقبرة تلتهم الموتي والأحياء, وشتان بين اللوحة البديعة لصنعاء القديمة, والمدينة الجديدة التي تحولت إلي خلفية باهتة مترامية الأطراف. وبهذا تُمثِّل "صنعائي" سيرة ترصد التحولات السلبية التي طرأت علي الحياة الاجتماعية، مظهرها وجوهرها، وتحولها من حياة طبيعية تلقائية ملونة يسودها الود والتماسك، إلي حياة مقيدة بالأعراف والتقاليد والتدين الزائف، وقد سبق هذا التحول ورافقه تحول سياسي انتصرت فيه قوي الرجعية علي قوي المدنية والحداثة. كاتب وناقد يمني