لا أظن أن في العالم العربي من يمتلك قلبًا أو روحًا يحمله علي إنكار فيروز أو الظاهرة الرحبانية في الموسيقي والغناء والمسرح. علي الأرجح، يتوزع العرب بين مفتون ومحب ومقدر. ليس هناك من يكره، وعلي أسوأ تقدير قد نجد من لا يبالي بفيروز والرحابنة؛ لأن انحيازاته الفنية في مكان آخر أو لأنه بلا انحيازات، لكن الجميع يعلم أنه لا يوجد عطاء ثقافي جسد هوية بلد مثلما جسد الأخوان رحباني هوية لبنان؛ من خلال تعانق صوت فيروز بإبداعهما في اللحن والكلمة واستلهامهما للفلكلور وللموسيقي العالمية والعربية. وقد صار للظاهرة الرحبانية قداستها في أوساط المثقفين ومتذوقي الفن، من دون أن يهتم أحد بحصة كل من منصور أو عاصي أو فيروز أو حصص الآخرين الذين جرت ألحانهم وكلماتهم في هذا النهر وتم احتسابها لصالح الظاهرة، سواء كان الآخرون شعراء من عنترة إلي سعيد عقل والأخطل الصغير أو موسيقيين من موتسارت إلي سيد درويش ومحمد عبدالوهاب، أو حتي كانوا من العظماء المجهولين الذين توزعت أرواحهم في كلمات وألحان فلكلور بلاد الشام. قداسة النهر الرحباني هي التي بالغت من حجم الضجة علي الخلاف المادي بين فيروز وورثة منصور: انظروا! إنهم بشر ويختلفون علي الأموال أيضًا! نعم، هم بشر، لكن المعادلة مختلة، لأن الورثة، أحد طرفي الصراع، ليسوا فنانين، هم لحم فقط، أما فيروز الموصوفة دومًا ب "صاحبة الصوت الملائكي" فلا يمكن أن تكون بشرًا. هي ملاك يتعرض لقسوة البشر، ويجب التحليق معه بعيدًا عن البلل البشري! وهكذا بدأت ضجة عنوانها محاولة الورثة إسكات صوت فيروز. وبلغت الضجة ذروتها الاثنين الماضي بوقفات صامتة في بيروت وعواصم عربية مختلفة بينها وقفتان في القاهرة بنقابة الصحفيين وساقية الصاوي تضامنًا مع صوت السماء. كثيرون من المثقفين الذين أعتز بهم، وبينهم أصدقاء أعزاء، ذهبوا بعيدًا في اتهامهم لأبناء منصور، حتي اتهموهم بأنهم يحاولون فعل ما لم تتمكن منه إسرائيل، البعض يتواضع في سقف هجومه فيعتبر الورثة آثمين عاديين يحاولون تكميم الملاك ويطالبهم بالتوبة. لا يشبه هذا الانحياز لفيروز إلا مظاهرات الشباب أمام المحكمة لإعفاء تامر حسني من عقوبة التهرب من التجنيد، مع حفظ المقامات والفروق في الحالتين. كيف يكون من حق النجم ألا يؤدي ضريبته الوطنية، وكيف رأي المتظاهرون دفاعهم عن هذا العار؟ سؤال لا يمكن أن نسأله للمراهقين والشباب من محبي تامر حسني، لكننا يجب أن نفكر فيه بصوت عال عندما يكون الأنصار كتابًا وفنانين يفترض أن يكون انحيازهم للعدل بقدر انحيازهم للجمال. وبدلاً من لوم الورثة البشر علي بشريتهم التي لا تخالطها ملائكية، كان ينبغي أن نلوم فيروز لأن ملائكيتها لم تردع الطين الأرضي فيها، وتركتها تخوض صراعًا ماديًا. أعتقد أن حملة المناصرة هذه كانت ستصبح وجيهة لو كان منع الورثة تعسفًا ثقافيًا من الورثة مبعثه الرغبة في الحجر علي الإبداع، بمنطق الحلال والحرام أو بمنطق الحجر السياسي لأن العمل الموروث يمكن أن يهدد مصالحهم مع نظام قائم. وهذه مصيبة يعاني منها الأدب والفن المصري بخاصة، حيث يمنع ورثة مبدعين إبداعات أسلافهم ويحجرون علي عطائهم لأسباب من هذا النوع. وفي مثل هذه الحالات فقط يمكن التضامن، أما أن ننكر علي الورثة حقوقهم المادية؛ فهذا هو الدليل المادي علي إمكانية اجتماع أمة المثقفين علي الخطأ!