كنت أقفُ، كعادتي في بعضِ الليالي، خلفَ شيشِ الشباكِ أدخنُ سيجارةً أخيرة، علّ رأسي يثقلُ قليلاً، فأعودُ ثانيةً إلي فراشي محاولاً النوم. كانت حارتنا الضيقةُ، كما عهدتها دائما، مستغرقةً في الظلام. فلا يُري أحدٌ ولايسمعُ صوتٌ ولاتفتحُ نافذة. وحدي كنتُ أتابعُ القططَ تروحُ وتجيءُ بحثاً في الأكياسِ الممزقةِ المنثورةِ علي الرصيفِ المقابلِ لنافذتي في الطابقِ الأرضي. وبينما أنا أنفثُ دخانَ أرقي رأيتها تدخلُ، بخطواتها القصيرة، ناصيةَ حارتنا، كشبحٍ ضئيلٍ يتهادي تحتَ ضوءِ الفانوسِ المرتعش. أسعدتني رؤيتها، ذلك أنها كانت قد انقطعت في الآَونةِ الأخيرةِ عن القدوم، وكانت فيما مضي، إذا ما حدثَ، لا تطيلُ الغياب. بدتِ الأكياسُ التي أحضرتها، هذه المرة، ممتلئةً أكثر من المعتاد، وكأنها كانت تعوضُ القططَ التي لابدَ تساءلت فيما بينها عن سرِ غيابها الطويل، فأقبلت بدورها مستقبلةً إياها في لهفة، وأخذت تتقافزُ حولها وتموء، بينما هي تتقدمُ وفي مشيتها عرجةٌ خفيفة. وبدت لي منهكةً كمن خرجَ لتوهِ من وعكةٍ صحيةٍ من النوعِ الذي يلزمُ الفراش. ظهر هذا عندما بدأت تفرغُ ما في الأكياسِ من أحشاءٍ وبقايا نيئة علي الرصيف. همَ الجمعُ بوليمتهِ المنتظرة، بينما وقفت هي مستندةً علي جذعها تتابعهم. وهبّ نسيمٌ باردٌ ثقيل، وكان بإمكانكِ سماعُ أفواهِ القططِ تمضغُ الطعام. وجالَ بخاطري كيفَ أنَ القططَ تتشاجرُ دائما فيما بينها، في الأيامِ التي تغيبُ فيها هذه السيدة، فيصدرُ عنها أصواتٌ ممتدةٌ مخيفة، تعلو وتتزايدُ في سوادِ الليل. وتذكرتُ كيفَ كانت جدتي تستعيذُ بهِ منَ الشيطانِ عندَ سماعها، وكانت تعللُ ذلكَ بأن شيطاناً يدخلُ بينهم فيبدأو أن في التصارعِ والشجار، وابتسمتُ لمّا تذكرتُ كيفَ كنتُ أصدقها. حدثَ كلُ شيءٍ بسرعة فجأةً اخترقَت الصمتُ صيحة همجية، واندفعَ من الزقاق الجانبيٍ شخصٌ يركضُ مذعوراً ومن خلفهِ اثنانِ يبدو من هيأتهما أنهم منَ العسس. تفادي الفتي السيدةَ وكادَ يسقطُ في المياهِ الآسنةِ أسفلَ الرصيف. فاندفعتِ القططُ هاربةً وحافظت علي مسافةٍ معقولةٍ بينها وبينَ طعامها، قبلَ أن تفرَ تماما مع اصطدامِ أولِ الملاحقينَ بالسيدةِ التي كانت للتوِ تلتفتُ غيرَ مدركةٍ لما يحدث. وسقطَ الاثنانِ أرضاً، إلاّ أنهُ استندَ عليها، وفركَ بقدميهِ في الأرضِ متفادياً السقوطَ الكامل، في حركةٍ لا تتناسبُ وضخامةِ جسده، كانَ ساخطاً بشدة، وصاحَ قائلاً شيئاً ما لمْ أتمكن من سماعهِ جيداً، لكني فسرتهُ علي أنهُ سبابُ اعتراض. والتفتَ للوراءِ وهو يتابعُ الركضَ ناظراً لزميلهِ الذي بالكادِ كانَ يقترب، وكأنهُ يستعجله، واستكملَ ملاحقةَ الفتي. وبينما هي علي الأرضِ المبتلةِ ممددةٌ لا تأتي بحركة ركلها الثاني في صدرها فور وصولهِ وانحني مستنداً بكلتا يديهِ علي ركبتيهِ يلتقطُ أنفاسهُ وأخذَ يسعلُ بشدةٍ ويبصق، ثمَ اعتدلَ وركلها ثانيةً في ظهرها، فصدرَ عنها تأوهٌ مكتوم، وقفَ ينظرُ إليها برهةً ومن ثمَ استكملَ الركض. هدأت الحارةُ تماماً، وبقيت هي ممددةً هناكَ. ولابدَ أن الضوضاءَ قد أيقظت الكثيرين، لكنهم بالتأكيدِ اكتفوا بالمشاهدةِ مثلي من خلفِ نوافذهم المغلقة. عادت القططُ تدريجياً في حرصٍ تشتمُ بقايا طعامها الذي داستهُ الأحذيةُ الجلديةُ القاسية. وفكرتُ أن أخرجَ وأطمئنَ علي السيدةِ التي ظلت ممددةً لا تأتي بحركة. إلاّ أني، ودونما سببٍ واضحٍ ورغمَ قلقي الشديدِ عليها، ترددتُ في فعلِ ذلك. لم يمضِ الكثيرُ منَ الوقتِ حتي عادَ العسسُ يتمشونَ علي مهل، ووقفوا في منتصفِ الحارةِ يتحدثون، وأشعلَ أحدهم سيجارةً بينما اكتفي الثاني باللهثِ والسعال. لمْ يطيلوا الوقوفَ واستكملوا السيرَ عائدينَ من حيثُ أتوا منَ الزقاقِ الجانبي المعتم. وبقيتُ واقفاً أنتظرُ لربما أفاقت السيدة، لكني في نهايةِ الأمر آثرتُ العودةَ إلي فراشي. وأخذتني سنةٌ من النومِ قلقتُ بعدها فنهضتُ لأري ماذا حلَ بالسيدة، لأجدها وقد اختفت. فتحتُ النافذةَ وأخرجتُ رأسي وأمعنتُ النظرَ يمنةً ويسرة، ولمْ يكن لها أثر. في الصباحِ استيقظتُ قبلَ الصلاة. أيقظني صوتُ الخطيبِ الذي كانَ يعظ الناسَ في فتورٍ واعتياد. بعدَ أن فرغ المصلونَ من أداءِ الصلاةِ خرجتُ إلي السوقِ لشراءِ بعضِ الحاجياتِ التي طلبت مني والدتي إحضارها، كانَ التجمعُ الأسبوعيُ الذي يلي الصلاةَ منعقداً وسطَ حارتنا كالمعتاد، وذكرَ أحدهم أمرَ ضوضاءٍ خيلَ إليهِ انهُ سمعها ليلةَ أمس. هزَ البعضُ رؤوسهم نفياً في ثقة، وتأرجحَ الباقونَ بينَ هذا وذاك. أما السيدةُ التي لايعرفُ أحدٌ منا اسمها، فلم تُر ثانيةً تتهادي ليلاً إلي حارتنا، ومازالت القططُ تعوي وتقتتلُ إلي يومنا هذا.