هو صاحب موهبة متفردة.. فلم يكن استاذ جغرافيا فحسب ، بل كان مفكرا وعالما أفني عمره كله باحثا في عشق مصر .. ومنذ فترة وجيزة أصدرت عنه مكتبة الإسكندرية كتابا بعنوان " جمال حمدان و عبقرية المكان" إعداد محمد محمود غنيمة و أيمن منصور ، كشف عن جوانب متعددة في حياة جمال حمدان ،منها نشر أربعة بورتريهات رسمها الراحل الكبير، فضلا عن مجموعة من أندر الصور تمثل مراحل مختلفة من حياته ، الكتاب يستعرض بعضا من محطات ابن محافظة القليوبية "جمال محمود صالح حمدان"، الذي تعلم القرآن وتجويده، وأساسيات اللغة العربية، وعند التحاقه بالمدرسة التوفيقية الثانوية أصابه الولع بأستاذه الجليل "محمود جمال الدين"، فكان مفتاح حبه للجغرافيا. جغرافيا حمدان التحق دون تردد بكلية الآداب قسم الجغرافيا بجامعة فؤاد الأول (القاهرة حاليا)، تفرغ للعلم والتحصيل وكان طالبا متفوقا، وتخرج فيها حاصلا علي درجة الليسانس بامتياز وهو لم يتجاوز العشرين عاما، فعين معيدا بالكلية واختارته الجامعة لتكملة دراساته العلمية بالخارج، فسافر إلي إنجلترا، وتحديدا جامعة رادنج؛ الشهيرة في العلوم الإنسانية كالجغرافيا والأنثروبولوجيا. قابل في بعثته "أوستين ميللر"، أستاذه والمشرف علي رسالته، الذي يعد من أهم الشخصيات التي أثرت في دعم فكر حمدان، فجعله يدأب علي قراءة الموسوعات العلمية والمراجع ودراستها، وعندما اختار موضوعا لرسالته حول "سكان وسط دلتا النيل" وعمل عليه لأكثر من عام، رأي ميللر أن هذا العمل أكبر من أن يكون موضوعا لنيل درجة الماجستير، فهو يرقي للحصول علي درجة الدكتوراه، فشجعه علي العودة إلي مصر واستكمال أبحاثه، وعندما انتهي منها بعد عامين نال درجة دكتوراه في فلسفة الجغرافيا مع مرتبة الشرف، ليكون السادس في العالم الذي يكتب رسالة في هذا المجال. ضمير من العشق يئن بعد عودته انضم مرة أخري لأعضاء هيئة التدريس بقسم الجغرافيا، وأصدر كتبه الثلاثة الأولي: "جغرافية المدن"، "دراسات في العالم العربي" الذي حصل علي جائزة الدولة التشجعية، و"أنماط من البيئات"، وفي عام 1963 تقدم باستقالته من الجامعة ولكنها لم تقبل إلا بعد عامين، ومن حينها فرض علي نفسه عزلة اختيارية عن المجتمع، لم يكن يستقبل أحدا في منزله إلا في حالات محدودة، وتفرغ لدراساته وأبحاثه، قائلا: "لا أريد التعامل مع المجتمع... ولن أخرج من عزلتي... حتي ينصلح حاله وإن كنت أتصور أن ذلك لن يحدث". مر حمدان خلال هذه الفترة بمرحلة عصيبة من حياته، فقد كان يشعر بالمرارة والاضطهاد، فأمره طبيبه المعالج بالكف عن الكتابة والتفكير وبأن يذهب إلي أحد المنتجعات للتخفيف من أعبائه، فذهب مع أخيه إلي حلوان وتفرغ للرسم وسماع الموسيقي والخروج للنزهات القصيرة والنوم المبكر، حتي عاد سليما معافي، فقد كان يدرك في قرارة نفسه أن الأقدار قد اختارت له ما أراد، حيث لم يشعر عند انسحابه وعزلته بأنه ألقي نفسه في فراغ، ولكنه ظل منكبا علي قصيدته العاشقة "شخصية مصر- دراسة في عبقرية المكان". من المنهجية إلي القومية سُمي بفيلسوف الجغرافيا، وقد تجاوزت كتبه 29 مؤلفا، بالإضافة إلي المقالات العلمية التي أصدرها بالصحف أو الدوريات العلمية، وقد قسم العلماء والباحثون مراحل الفكر والإنتاج عند حمدان لثلاث مراحل، الأولي مرحلة التفكير العلمي (1953-1964)، التي اهتم فيها بالكتابة العلمية بغزارة وأنجز خلالها 17 عملا علميا، فاهتم بدراسة السكان والمدن والجغرافيا السياسية علي المستوي الإقليمي في إفريقيا والمنطقة العربية. أما الثانية فهي التفكير الوطني (1964-1984) وهي فترة الجغرافيا السياسية للمنطقة العربية والأفريقية، وقد أنتج فيها 15 كتابا، إلي جانب كتاب شخصية مصر من القطع الصغير إلي أن تحول إلي موسوعته الكبيرة في بداية الثمانينيات، بينما المرحلة الأخيرة، هي التفكير القومي (1984) وحتي وفاته، وقد خصصها لأعمال علمية لم تصدر. حظي حمدان بالتكريم داخل مصر وخارجها، كما رشح لمناصب قيادية، ولكنه رفض وفضل أن يتحفنا بإنتاجه العلمي ولا يخرج من صومعته واعتكافه؛ الذي وضعه في مصاف العلماء الجغرافيين علي مستوي العالم العربي، ومن الجوائز التي حصل عليها: الدولة التشجيعية في العلوم الاجتماعية عام 1959، الدولة التقديرية في العلوم الاجتماعية عام 1985، التقدم العلمي عام 1986 بالكويت، وسام العلوم من الطبقة الأولي عام 1988، وجائزة معرض الكتاب الدولي عام 1989، وقد عرض عليه العمل كأستاذ بالجامعة الليبية لكنه رفض، وتجدد العرض ذاته من بغداد ورفض أيضا. روح تنتظر الثأر ظل جمال حمدان في عزلته الاختيارية حتي توفي محترقا نتيجة تسرب الغاز من أنبوب البوتاجاز أثناء قيامه بإعداد كوب من الشاي لنفسه، فاحترق نصف جسده