لك ولع قديم بسبر القلوب. تظل تبحث وتدقق وتنبش التراب والسطور لتصل إلي شيء جديد يخص هؤلاء الذين يقصدونك بالزيارة في ليالي أحلامك. كانوا يأتونك كبشر من لحم ودم وتكاد تلمس أرديتهم مذهولا مسحورا. حقا لم تعرف أحدهم ولم تره، لكنها القلوب وما بها من عيون! أمل دنقل "أمل دنقل" يأتي بطرقات ثلاث علي صدر الباب. تفتح فتراه مبتسما عاقدا ذراعيه فوق صدره. يجلس علي كرسي وحيد لا يُغيره. تلتزم الصمت وتشرب ملامحه بعينيك متأملا مسحورا. تقول له، في البدء، أنك تعرف قصة حياته.. تتلو من الذاكرة: "كان ياما كان/ أن كان فتي/ لم يكن يملك إلا مبدأه/ وفتاة ذات ثغر يشتهي قبلة الشمس/ ليروي ظمأه". يتلفت حوله بضيق ويطلب تغيير الجو. ترحب وتدمع لهذه البساطة المنسابة. لا تطرف عيناك عن هذا الوجه، الوجه الذي تفحصته وعاينته قبل أن تري صاحبه بسنين، وجه ابن عمتك "رفعت" الذي مات تحت ثقل جرار زراعي انقلب فوقه في الترعة الصغيرة وبقيت منه صورة معلقة حتي الآن علي جدار طيني في بيت عمتك المكسورة. كيف جمع الزمن بين الوجهين؟ كيف وحّد بين النهايتين؟ الملامح راسخة في ذاكرتك، تعرفها جيدا الآن بجوار هذا الوجه الحزين المجدور. علي شاطئ بحر ليس له آخر تقفان. "أمل" ذهب مغاضبا بضع خطوات. لن تنسي ذلك الفم المهول لحوت عظيم وقد تمطي والتقمه في غمضة عين، واللحظات الرهيبة لانتظارك مذعورا حتي يشب ذلك الفم مرة أخري ويلفظه في هبة قوية أسقطته بجوارك مهدودا. بدا كأنه غاب لأعوام. يخبرك أنه في بطن الحوت لم يطق صبرا وراح يشك البطن اللينة بسن القلم فكان ما كان. قال إنه قرر الرجوع رغم كل شيء، وأن العزلة بالنسبة إليه موت حقيقي. سار بك نحو مقهاه الذي بدا خاليا إلا من آثار أقدام علي البلاط المترب. فجأة تتلفت حولك فلا تراه. تزعق، تجري، تهتف باسمه الغالي. يجاوبك هاتف بعيد مشروخ:"كان في كفي ما ضيعته/ في وعود الكلمات المرجأة/ كان في جنبي/ لم أدر به/ أو يدري البحر قدر اللؤلؤة؟". يزداد جنونك أكثر. تنادي وتصرخ. يعود الصوت المجهول صاعقا من الجهات الأربع: "أتري حين أفقأ عينيك/ ثم أثبت جوهرتين مكانهما/ هل تري؟". يظهر "أمل" علي هيئة شبح أبيض بجناحين، يطير ويسحبك وراءه في سماوات وأزمان وأمكنه. لن يتغير هذا الحلم بعد ذلك.. طيرانك في ذيل الشبح. يوسف إدريس "يوسف إدريس" بالذات لن يتركك. يظهر لعدة ليال ثم يجافي. في ليلة لا يستغرق ظهوره سوي لحظة، يكون واقفا في ميدان التحرير يُلوح لك ويمضي مسرعا بين العربات. تجري وراءه فلا تلحقه. يتلاشي. أحيانا يظهر فوق سطح عمارة، أو في غيط برسيم وسيع. ذات حلم نزلتما حقل طماطم. كان ينحني علي الثمار الحمراء يأكل ويعطيك. يبدو في عجلة. لا يمنحك وقتا. فقط بعض الإشارات والإيماءات التي لا تفهمها. في مرة يكون معك ثم ينقلب كرة نار هائلة تتكور بجنون نحوك. تهرب وتجري بأقصي جهدك. يعاود التحول لملاك بجناحين خضراوين في حجم عصفور يحط فوق رأسك مداعبا. يستحيل نسرا بأظافر معقوفة، حدأة، بومة، قطة،فرسا، ورقة، قلما, قطعة فحم، جذوة، موسيقي، ترابا، رملا في صحراء، هرما، نبيذا، .... لن يقول لك الحقيقة. سيتركك مثلما جاء. وفي كل حلم يعطيك تحولا عليك أن تسعي في إثر معناه. إلا هذا الحلم الذي كان فيه واقفا وعلي رأسه خبز تأكل منه الطير. تتابع مأخوذا تلك الأسراب التي جاءت من كل صوب. تقف بجواره وتسحب بعضا من خبزه وتتوج به رأسك، لكنّ الطيور لا تقرب خبزك وتواصل عملها الآخر. يضحك ويمضي بطيوره. بليغ حمدي عندما لاح عن قرب، عرفته بعيونه الذابلة وشعره الأسود المنسدل. نظر تجاهك وأخرج تنهيدة حارة من عمق سحيق. أمكن لك أن تري في مكان القلب شعلة نار ذات لهب ذهبي برّاق. تمد يدك لتلمس النار بين الضلوع، فتلسعك حواف اللهب. لا تكرر المحاولة بعد ذلك رغم ولعك بالنيران. يجلس القرفصاء ويناديك. تقعد بجواره وبصرك موزع بين وجهه والشعلة الذهبية. قل له عن عذاباتك التي كان هو سببها. هو الآن بين يديك. قل. لكنه سيبدأ المشهد بأن يغرف بيده حفنة تراب وينثرها. ينساب لحن تعرفه وطالما مزقك قبل ذلك مائة قطعة. يذهب وينحني علي الماء يعب بفمه. يعود لحن جديد يسري فتجد نفسك مصعوقا بكهرباء خفية ومعلقا في الفضاء. تسكت الموسيقي فتقع هكذا مرة واحدة بعدما نفد سحرالساحر. تكلمه أخيرا: رفقا! يأخذ نفسا ويخرج نفس التنهيدة التي قابلك بها، لكنها تنهيدة كسحتك بخفة كورقة. تستغيث به أن كفي. بإشارة من يده يسحبك إليه مرة أخري ويقبل نحوك. ينحني فوقك. يمد يده نحو شعلة صدره ويقبس منها قبسا مشتعلا يزرعه بين ضلوعك. تحس بالنار تفريك. تتلوي بالبريق الذهبي داخلك. يتركك وحيدا علي شاطئ النهر.