علي مدي البصر تلوح بنايات قديمة جاثمة كقصر مهجور تتصل بها بقايا سور تغطية الأعشاب أو تكاد. يتملك شادي شعور حاد بمعرفة ما حوله وما فوقه فأعلي الجبال الشم البيضاء تمضة. هو يريد أن يبلغها طولا تلك الجبال المحيطة به تبدو كأنها قطع عظيمة من الثلج تحجب قممها من حين لآخر سحب عابرة. أشجار موال الخزاصين، أيقظ فيه إحساساً ما... فيروز تشدو "إسمي بيمحي" أنا إسمي لا يمحي باق فكما في كل واد بنوسعد، أنا هنا ... أنا هنا ..... وكان يرفع عقيرته بندائه هذا لولا خوفه القديم من هوشات الليل. برودة الماء تنعش قدميه المغروستين فيه قدمان أنهكتهما الرمال الوعساء المتوجهة والطرق الطويلة الملتوية. العشب الاخضر علي جنبات النهر تزفزفه الريح موسيقي هادئة تبعث فيه ميلا أكيدا لاسترخاء. سكن الليل وهدأت الطيور وأوت جميعها إلي الأشجار، يلوح من بعيد جهة الشرق مستطلع القوافل تزاحمت أفكاره إزدادت حدة التوتر وتراكمت التناقضات.... عادوه الشوق القديم تأوه، تأفف، تبرم وانتفض واقفاً. "الكائنات من حولي تكلست عقولها فهي في لاوعيها الجماعي...." أيقن بعد التأمل أن علي التلة جسما يتحرك يثير غبارا ما ينفك يتكوثر.. بدأت حدة التوتر تخفت.... طيور مختلفة منها من ترجع أصواتها وتمدها رقيقة لينة ومنها ما يثير الشجار والشجن. الجداجد وصارخ الليل تؤنسه بأصواتها المتقطعة من حين لآخر. شادي تاهت حياته في غموض الخرافة لا حدود لطموحاته وآماله وأحلامه. قد يتنا في لديه الأمل والألم فيولدان يأسا مقيتا فتنكشف له الحقيقة ما بين الموت والحياة. ما يقض مضجعه ويثير ذهنه ويدعوه إلي التفكير والتساؤل: أهؤلاء الأحياء أحياء أم أموات أحياء!!.. نور القمر يبدد بعض مخاوفه لا كلها. هذه الورود تناجيه تبكيه ولكنه بكاء مر كعادته. عاوده الهذيان تؤلمه آماله وأحلامه أحلام اليقظة. قال بمرارة: "زوريها لتزورك لأراها" ذاب حبها في قلبه ذوبان الجليد في الأرض... هيهات هيهات أن يعود ثلجاً... ويستسلم شادي لنومة، لعل لقاء في غفوته يكون. تطاوين / تونس