شعر - عبدالرحمن شكرى وأبوالقاسم الشابى .. رسوم - ويليام بوغيرو شعراؤنا شموس فى سماء الإبداع ينيرون لنا ببصيرتهم وبصرهم طريقنا ويخبرونا ما لم نخبره، فيما فاتنا من أمورنا الحياتية فهم بمثابة توثيق وشهادة على عصرهم ونحن نخصص هذه المساحة من الإبداع للاحتفال بشاعرين مهمين، الأول هو الشاعر المصرى عبد الرحمن شكرى (12 أكتوبر 1886-1958) وهو من الرواد فى تاريخ الأدب العربى الحديث، كان شاعرًا مجددًا ومفكرًا أصيلاً حريصًا على اللغة العربية الفصحى، كما كان ناقداً لعبت آراؤه النقدية دورًا كبيرًا فى الأدب العربى الحديث، وهو إلى جوار العقاد والمازنى أعمدة «مدرسة الديوان» التى وضعت مفهومًا جديدًا للشعر فى أوائل القرن الميلادى الماضى. وأيضا احتفالا بالشاعر التونسى أبو القاسم الشابى (1909- 9 أكتوبر 1934) وقد لقب «شاعر الخضراء»، له العديد من القصائد الشهيرة منها «إرادة الحياة» وهى النشيد الوطنى لتونس. يصاحب القصائد لوحات للفنان العالمى ويليام بوغيرو، وهو رسام واقعى وأكاديمى فرنسى، من الشخصيات البارزة فى تاريخ الفن، تتميز لوحاته بالإتقان الكامل فى الشكل والتقنية والجودة العالية والتأثر الشديد بالواقعية.
عصفور الجنة ألا يا طائرَ الفِردوسِ قَلْبى لك بستانُ ففيه الزهرُ والماءُ وفيه الغصن فينانُ وفيهِ منكَ أنغامٌ وفيه منكَ ألحانُ وللأشجارِ أوتارٌ وناياتٌ وعيدانُ ألا يا طائرَ الفردو س إن الشعر وجدانُ وفى شدوكَ شعرُ النف س لا زورٌ وبهتانُ فلا تقتدِ بالناسِ فما فى الخلقِ إنسانُ وجُدْ لى منكَ بالشعرِ فإنَّا فيه إخوانُ ألا يا طائرَ الفردو س قلبى منك ولهانُ فهل تأنفُ منْ روضى وما فى الروض ثعبانُ؟ وهل تنفرُ من جوِّى وما فى الجوِّ عقبانُ؟ وهل تنَفرُ من قلبى كأنَّ القلبَ خوّانُ فما لى مِنْكَ إسعادٌ ولا لى منكَ لقيانُ وللأقدارِ أحكامٌ وللمخلوقِ إذعانُ أرى الأحداثَ إسراراً ستُمسى وهى إعلانُ ويهفو بكَ ريبُ الده رِ إنَّ الدهرَ طعّانُ فلا حسنٌ ولا شدوٌ ولا زهرٌ وأَغَصانُ سيبقى لكَ فى قلبى موداتٌ وتَحنانُ فإنْ ملّكَ أحبابٌ وإنْ عقّك إخوانُ وإنْ رابَكَ من عَيْشِ كَ لوعاتٌ وأحزانُ فجرّبْ عندَها قلبى فقلبى منكَ ملآنُ وأسمعنْى من الشعرِ فإنَّا فيهِ خلانُ وهل تفهمُ ما أعْنى وهل للطيرِ أذهانُ؟ عبد الرحمن شكرى
لحن الحياة إذا الشعبُ يومًا أراد الحياة فلا بدّ أن يستجيب القدرْ ولا بدَّ لليل أن ينجلي ولا بدّ للقيد أن ينكسرْ ومن لم يعانقْه شوْقُ الحياة تبخَّرَ فى جوِّها واندثرْ فويل لمن لم تَشُقهُ الحياة من صفْعة العدَم المنتصرْ كذلك قالت ليَ الكائناتُ وحدثنى روحُها المستترْ ودمدمتِ الرِّيحُ بين الفِجاج وفوق الجبال وتحت الشجرْ: إذا ما طمحتُ إلى غايةٍ ركبتُ المُنى، ونسِيت الحذرْ ولم أتجنَّب وعورَ الشِّعاب ولا كُبَّةَ اللّهَب المستعرْ ومن يتهيب صعود الجبال يعش أبَدَ الدهر بين الحفرْ فعجَّتْ بقلبى دماءُ الشباب وضجَّت بصدرى رياحٌ أخَرْ... وأطرقتُ، أصغى لقصف الرعودِ وعزفِ الرياحِ، ووقعِ المطرْ وقالت لى الأرضُ - لما سألت: أيا أمُّ هل تكرهين البشرْ؟ أُبارك فى الناس أهلَ الطموح ومن يستلذُّ ركوبَ الخطرْ وألْعنُ من لا يماشى الزمانَ ويقنع بالعيْشِ عيشِ الحجَرْ هو الكونُ حيٌ، يحبُّ الحياة ويحتقر المَيْتَ، مهما كبُرْ فلا الأفْق يحضن ميْتَ الطيورِ ولا النحلُ يلثم ميْتَ الزهرْ ولولا أمُومةُ قلبِى الرّؤوم لَمَا ضمّتِ الميْتَ تلك الحُفَرْ فويلٌ لمن لم تشُقه الحياة مِن لعنة العدم المنتصِرْ! وفى ليلة من ليالى الخريف مثقَّلةٍ بالأسى، والضجرْ سكرتُ بها من ضياء النجوم وغنَّيْتُ للحُزْن حتى سكرْ سألتُ الدُّجى: هل تُعيد الحياةُ، لما أذبلته، ربيعَ العمرْ؟ فلم تتكلّم شفاه الظلام ولم تترنَّمْ عذارى السَّحَرْ وقال ليَ الغابُ فى رقَّةٍ مُحَبَّبَةٍ مثل خفْق الوترْ: يجئ الشتاءُ، شتاء الضباب شتاء الثلوج، شتاء المطرْ فينطفئُ السِّحرُ، سحرُ الغصونِ وسحرُ الزهورِ، وسحرُ الثمرْ وسحرُ السماءِ، الشجيُّ، الوديعُ وسحرُ المروجِ، الشهىُ، العطِرْ وتهوِى الغصونُ، وأوراقُها وأزهارُ عهدٍ حبيبٍ نضِرْ وتلهو بها الريحُ فى كل وادٍ، ويدفنُهَا السيلُ، أنَّى عبرْ ويفنى الجميعُ كحُلْمٍ بديعٍ، تألّق فى مهجةٍ واندثرْ وتبقى البذورُ، التى حُمِّلَتْ ذخيرةَ عُمْرٍ جميلٍ، غَبَرْ وذكرى فصولٍ، ورؤيا حياةٍ، وأشباحَ دنيا، تلاشتْ زُمَرْ معانقةً - وهى تحت الضبابِ، وتحت الثلوجِ، وتحت المَدَرْ - لِطَيْفِ الحياةِ الذى لا يُمَلُّ وقلبِ الربيعِ الشذيِّ الخضِرْ وحالمةً بأغانى الطيورِ وعِطْرِ الزهورِ، وطَعمِ الثمرْ أبو القاسم الشابى عِشْ بالشُّعور، وللشُّعورِ، فإنما عِشْ بالشُّعورِ، وللشُّعورِ، فإنَّما دنياكَ كونُ عواطفٍ وشعورِ شِيدَتْ على العطْفِ العميقِ، وإنّها لتجفُّ لو شِيدتْ على التفكيرِ وَتَظَلُّ جَامِدَة الجمالِ، كئيبة ً كالهيكلِ، المتهدِّم، المهجورِ وَتَظَلُّ قاسية َ الملامحِ، جهْمة ً كالموتِ..، مُقْفِرة ً، بغير يرورِ لا الحبُّ يرقُصُ فوقها متغنِّياً للنّاسِ، بين جَداولٍ وزهورِ مُتَوَرِّدَ الوَجناتِ سكرانَ الخطا يهتزُّ من مَرَح، وفرْط حبورِ متكلِّلاً بالورْدِ، ينثرُ للورى أوراقَ وردِ «اللَّذة ِ» المنضورِ كلاَّ! ولا الفنُّ الجميلُ بظاهرٍ فى الكون تحتَ غمامة ٍ من نورِ مَتَوشِّحاً بالسِّحر، ينفْخ نايَهُ بوبَ بين خمائلٍ وغديرِ أو يلمسُ العودَ المقدّسَ، واصفاً للموت، للأيام، للديجورِ ما فى الحياة من المسرَّة ِ، والأسى والسِّحْر، واللَّذاتِ، والتغريرِ أبَداً ولا الأملُ المُجَنَّحُ مُنْشِداً فيها بصوتِ الحالم، المَحْبُورِ تلكَ الأناشيدُ التى تَهَبُ الورى عزْمَ الشَّبابِ، وَغِبْطة العُصْفورِ واجعلْ شُعورَكَ، فى الطَّبيعة قَائداً فهو الخبيرُ بتِيهما المسْحورِ صَحِبَ الحياة َ صغيرة ً، ومشى بها بين الجماجم، والدَّمِ المهدورِ وعَدَا بهَا فوقَ الشَّواهِق، باسماً متغنِّياً، مِنْ أعْصُرِ وَدُهورِ والعقلُ، رغْمَ مشيبهِ ووقَاره ما زالَ فى الأيّامِ جِدَّ صغيرِ يمشي..، فتصرعه الرياحُ..، فَيَنْثَنِي مُتوجِّعاً، كالطّائر المكسورِ ويظلُّ يَسْألُ نفسه، متفلسفاً متَنَطِّساً، فى خفَّة ٍ وغُرورِ: عمَّا تُحَجِّبُهُ الكواكبُ خلفَها مِنْ سِرِّ هذا العالَم المستورِ وهو المهشَّمُ بالعواصفِ.. يا لهُ من ساذجٍ متفلسفٍ، مغرور! وافتحْ فؤادكَ للوجود، وخلَّه لليمِّ للأمواج، للدّيجورِ للثَّلج تنثُرُهُ الزوابعُ، للأسى للهَوْلِ، للآلامِ، للمقدورِ واتركْه يقتحِمُ العواصفَ..، هائماً فى أفقِها، المتلبّدِ، المقرورِ ويخوضُ أحشاءَ الوجود..، مُغامِراً فى ليْلِها، المتَهَّيبِ، المحذورِ حتَّى تعانقَه الحياة ُ، ويرتوي من ثغْرِها المتأجِّجِ، المسجورِ فتعيشَ فى الدنيا بقلبٍ زاجرٍ يقظِ المشاعرِ، حالمٍ، مسحورِ فى نشوة ٍ، صُوفيَّة ٍ، قُدسية ٍ هيَ خيرُ ما فى العالمِ المنظورِ أبو القاسم الشابى جنون الأقوياء وقديمًا جن القوي بما طاع له من تزلف الضعفاء وضعوه في منزل الله كفرًا فطغى واستباح سفك الدماء ورأى الخير والفضيلة ما شاء وإن كان من أذى الأدنياء ورأى الشر والكبائر ما عاف وإن كان سيرة الأبرياء عبد الرحمن شكرى اليتيم وما اليُتم إلا غربة ومهانة وأي قريب لليتيم قريب؟ يمر به الغلمان مثنى وموحدًا وكل امرئ يلقى اليتيم غريب يرى كل أم بابنها مستعزة وهيهات أن يحنو عليه حبيب يسائله الغلمان عن شأن أهله فيحزنه ألا يجيب مجيب إذا جاءه عيد من الحول عاده من الوجد دمع هاطل ووجيب كأن سرور الناس بالعيد قسوة عليه تريق الدمع وهو صبيب عزاؤك لا يلملم بك الضيم إننا يتامى ولكن الشقاء ضروب فهذا يتيم ثاكل صفو عيشه وذاك من الصحب الكرام سليب ويقول في قصيدة «مصارع النجباء»: إن الحياة جمالها وبهاؤها هبة من النجباء والشهداء الحالمون بكل مجد خالد سامي المنال كمنزل الجوزاء الغاضبون الناقمون على الورى هبوا هبوب الصرصر الهوجاء الخالقون المهلكون الشارعون المرسلون بآية عزاء آي الجلالة والذكاء ميعها فيهم على السراء والضراء فلئن أصابهم الزمان بمهلك قبل ابتناء منازل العلياء فحياتهم وفعالهم ودماؤهم مثل الهدى وكواكب الإسراء عبد الرحمن شكرى كلُّ ما هبَّ، وما دبَّ، وما كلُّ ما هبَّ، وما دبَّ، وما نامَ، أو حامَ على هذا الوجود مِنْ طيورٍ، وَزُهورٍ، وشذًى وينابيعَ. وأغصانٍ تَميدْ وبحارٍ، وكهوفٍ، وذُرًى وبراكينَ، ووديانٍ، وبيدْ وضياءٍ، وظِلالٍ ودجى ، وفصولٍ، وغيولٍ، ورعودْ وثلوجٍ، وضباب عابرٍ، وأعاصيرَ وأمطارٍ تجودْ وتعاليمَ، وَدِينٍ، ورؤى وأحاسيسَ، وَصَمْتٍ، ونشيدْ كلُّها تحيْا، بقلبي حرَّة ً غَضة َ السّحر، كأطفال الخلودْ ههُنا، في قلبيَ الرحْبِ، العميقْ يرقُصُ الموتُ وأطيافُ الوجودْ ههُنا، تَعْصِفُ أهوالُ الدُّجى ههنا، تخفُقُ أحلامُ الورودْ ههنا، تهتُفُ أصداءُ الفَنا ههنا، تُعزَفُ ألحانُ الخلودْ ههنا، تَمْشي الأَماني والهوى والأسى ، في موكبٍ فخمِ النشيد ههنا الفجْرُ الذي لا ينتهي ههنا اللَّيلُ الذي ليسَ يَبيدْ ههنا، ألفُ خِضَمٍّ، ثَائرٍ خالدِ الثَّورة ِ، مجهولِ الحُدودْ ههنا، في كلِّ آنٍ تَمَّحي صُوَرُ الدُّنيا، وتبدو من جَديدْ أبو القاسم الشابى يا أيها الشادى المغرد هاهُنا
يَا أيُّها الشَّادِى المغرِّدُ ههُنا ثَمِلاً بِغِبْطة ِ قَلْبِهِ المَسْرُورِ مُتَنَقِّلاً بينَ الخَمائلِ، تَالِياً وحْيَ الربيعِ السّاحرِ المسحورِ غرّدْ، ففى تلك السهول زنابقٌ تَرْنُو إليكَ بِنَاظرٍ مَنْظُورِ غرِّدْ، ففى قلبى إليْك مودَّة ٌ لكن مودَّة طائر مأسورِ هَجَرَتْهُ أَسْرابُ الحمائمِ، وانْبَرَتْ لِعَذَابِهِ جنِّية ُ الدَّيْجُور غرِّد، ولا ترهَبْ يميني، إنّني مِثْلُ الطُّيورِ بمُهْجَتى وضَمِيري لكنْ لقد هاضَ الترابُ ملامعي فَلَبِثْتُ مِثْلَ البُلبلِ المَكْسُورِ أشدُو برنّاتِ النِّياحَة ِ والأسى مشبوبة بعواطفى وشعوري غرِّدْ، ولا تحفَلْ بقلبي، إنّهُ كالمعزَفِ، المتحطِّمِ، المهجورِ رتِّل عَلى سَمْع الرَّبيعِ نشيدَهُ واصدحْ بفيضِ فؤادك المسجورِ وکنْشِدْ أناشيدَ الجَمال، فإنَّها روحُ الوجود، وسلوة المقهورِ أنا طَائرٌ، مُتَغرِّدٌ، مُتَرنِّمٌ لكِنْ بصوتِ كآبتى وَزَفيري يهتاجُنى صوتُ الطّيور لأنَّه مُتَدَفِّقٌ بحرارة وطَهورِ ما فى وجود النَّاس مِنْ شيءٍ به يَرضَى فؤادى أو يُسَرُّ ضميري فإذا استمعتُ حديثَهم أَلْفَيْتُهُ غَثّاً، يَفِيض بِركَّة ٍ وَفُتُورِ وإذا حَضَرْتُ جُمُوعَهُمْ ألْفَيتَنِي ما بينهم كالبلبل المأسورِ متوحِّداً بعواطفي، ومشاعري، وَخَوَاطِري، وَكَآبتي، وَسُروري يَنْتَابُنِى حَرَجُ الحياة كأنّني مِنْهمْ بِوَهْدَة جَنْدلٍ وَصُخورِ فإذا سَكَتُّ تضجَّروا، وإذا نَطَقْتُ تذمَّروا مِنْ فكْرَتى وَشُعوري آهٍ مِنَ النَّاسِ الذين بَلَوْتُهُمْ فَقَلَوْتُهُمْ فى وحشتى وَحُبُوري! أبو القاسم الشابى