مدخل: قال السورياليون إن الطريقة الشرعية الوحيدة لنقد عمل إبداعي هي صياغة عمل إبداعي مواز. أكره الكتابات النقدية التي تمسك بعنق (حدوتة) الرواية فتفشي أسرارها وتمزق أستارها، ولا تبقي لي كقارئي لم اطلع بعد علي العمل الروائي سوي بقايا ميتة لحكاية مفضوضة الأسرار، لكنك لا تستطيع أن تفعل ذلك برواية (باب الليل)، ببساطة لا يمكنك أن (تحرق) الحدوتة فيها كيفما فعلت، إلا لو سردتها كاملة من أول سطر لآخر سطر، وصفها صديق مشترك بأنها : تحكي عن مصير المنفيين الفلسطينيين بتونس، يشبه ذلك أن تصف المحيط بأنه : شوية ميه مالحة. باب الليل في الحقيقة هي رحلة، بل هي الرحلة نفسها، فلا أهمية لاين ستأخذك، إنها المسير نفسه لا ما تسير إليه، تترك باب الليل بروايتك انت عنها، بحكايتك انت التي تحكيها وانت تسير عبر الأبواب المتعددة، أيها تختار أن تطيل الوقوف عنده أو الجلوس أمامه، وأيها تختار المروق السريع عبره، لك أن تختار الأبواب التي تشاء لتكون بواباتك انت، هي حكاية المنفيين الفلسطينيين في تونس، وهي حكاية الطبقة البرجوازية المدينية بجنوب المتوسط، وهي حكاية بنات الليل، وهي حكاية المقهي بناسه، وهي حكاية المبدع العاشق بلا أمل، كأن (باب الليل) إعادة اكتشاف لفن الحكي الأصل باللغة العربية (ألف ليلة وليلة) حيث الحكاية تلد الحكايات وتتقاطع معها وتتواصل وتشير دون إفصاح وتلمح قدر ما تبسط، هو عالم كامل مبني بكليته من الحكايات، بعضها يكتمل أمامك، بعضها يبدأ فلا تري نهايته، وبعضها تنهيه ولا تدرك بدايته، لكنك تخلق منها جميعا حكايتك أنت الخاصة. (كل شيء يحدث بالحمام، حمام المقهي بالطبع). هكذا تبدأ الرواية، وهكذا تفتح الباب الأول : باب البنات. هذا كاتب يقدم (خطاب نوايا) قويا منذ الجملة الأولي، يهاجم بقوة وبجراءة وذراعين مفتوحين، يعدك برواية تتدفق كالنهر الجبلي في موسم فيضانه فلا تلكؤ عند مقدمات رخوة لتحضير القاريء، ولا تراخي في مخاضات ضحلة يعوق تدفق النهر فيها تأملات فلسفية تسكن جملا مطاطة ثقيلة الظل، ستأخذك الرواية في تدفقها الخاطف للأنفاس عبر خمسة عشر بابا لتتركك مشبعا حتي العظام بها، بروائحها، ألوانها، بشرها، ضوئها، نسائها، رجالها. (كل شيء يحدث بالحمام، حمام المقهي بالطبع). هكذا، بلا مقدمات، كأنه دخول لمطعم شرقي، تفتح الباب فتكتسحك موجة الروائح الحريفة بكل قوتها، فإما أن تكون من عشاق التوابل الحريفة والنكهات العنيفة وإما أن تخرج مغلقا الباب علي الفور وتتناول عشاء من سندويتشات ماكدونالدز البلاستيكية، فهذا مكان للذواقة فقط. المقهي، كل شيء هو المقهي، هو المرأة التي ينعكس فيها كل شيء، فلا وجود للعالم إلا بقدر ما تنعكس صورته علي المقهي، لا وجود للبشر إلا بقدر ما تلقيهم مصائرهم داخل المقهي. أو لم تخلق المقاهي إلا لهذا؟ أعترف أنني قاريء عدواني، فأنا لا أسلم عقلي للكاتب أبدا، ولا اقبل (مؤامرة) الحكي بسهولة، ابقي متيقظا دائما، متربصا تقريبا، أتحين أخطاءه وأتصيد هفواته، الرواية تتفجر وصفا، وصفا يصل لدرجة الشبق بالتفاصيل، تفاصيل البشر، تفاصيل الحركة، الأفعال، الكلمات، وصفا يكاد يصرخ من الحسرة لانه لا يستطيع أن يحول الكلمات لمادة، للحم ودم يتنفس ويُلمس لكن...أين المقهي؟ أين وصف المقهي؟ وهو البطل الرئيسي المحوري، وهو المرأة التي ينعكس عليها العالم، كيف فاته أن يصفه؟ تلك خطيئة لا تغتفر، أمسكت به أخيرا (بابتسامة انتصار شريرة). في مكان ما بصفحة 82 من الرواية، لابد أنني انفجرت ضاحكا وقد اكتشفت أنني وقعت بفخ الكاتب بدلا من أن يقع هو بفخي، بداية علي أن احدد كيف تشبه (باب الليل)، إنها تشبه لوحات سقف كنيسة سيستين لمايكل أنجلو، في ذلك العمل الملحمي الأسطوري الأبعاد لا وجود لشيء تقريبا سوي للأجساد البشرية، لا أثاث ولا ديكور ولا حيوانات ولا أشجار ولا مباني، حتي الملابس لا توجد إلا كامتداد للبشر ، هكذا هي (باب الليل) عالم مخلوق كله من البشر، وعليه لا يمكن أن نري المقهي إلا عبر البشر، عبر (سفيان)، عشق سفيان الخائب ل (درة)، المقهي كمبني هو سفيان ودرة، بل هو المعادل المعماري لجسد (درة) هكذا جعله سفيان، المقهي نفسه بكل تفاصيله المعمارية هو جسد امرأة وإن كان من حجر، هنا نأتي للأيروتيكية، أيروتيكية (وحيد الطويلة) الخاصة ، ذلك الاحتفاء باحتشاد الجسد الأنثوي، الجسد قائم بذاته وفي ذاته، بكل تفاصيل ممكنة، بكل تنوع محتمل، جسد مترع ، وحشي، مراوغ، غاو، عصي ومستباح معا، وإن كنا نري العصيان ماثلا والاستباحة مفترضة، فهو لا يستباح أمامنا أبدا، يبقي ممجدا ، ساميا، كأنهن كاهنات عشتار ، أمازونيات الجنس اللواتي يخضعن الرجال ولا يخضعن لهم، حتي الأجساد، كلها قوية، عفية، متوهجة، برية، مثيرة، مشتهاة، لا جسد سقيم أو باهت أو مترهل...سوي أجساد الرجال، أجساد هؤلاء المتروكين، المناضلين القدامي المنفيين في (ديسابورا) المقاهي التونسية، ألاوديسيين الجدد العاجزين عن الإبحار لشواطئهم، تبقي حكايتهم اللحن الأساسي للرواية، لا تغيب ولا تندثر، هي المدخل تقريبا لكل باب أو المخرج منه، هذا المصير الشبيه بمأساة أغريقيه، يمنح الرواية نكهة شجن والم لا يمكن تجاهلهما، شجن والم ينعكسان علي كل الأشياء، حتي علي الأجساد الشبقية العفية، فهذه ليست جنة الخلد ولا هن حوريات، هذه منطقة منسية في مكان ما بين الفردوس والجحيم، (مطهر) منسي لا فكاك منه ولا رحيل، مهما تخيل قاطنوه الخروج والرحيل، هذا هو نهاية الدرب، فلا مخرج، لا شيء عظيم يحدث هاهنا، ولا حدث مفارق، هو الشرق الأوسط، حيث كل شيء باهت ورمادي وفاتر تحت الغلاف المبدئي اللامع الألوان والموحي بالحرارة، حتي (ثورة تونس) لا تنعكس سوي كظل باهت بارد علي المقهي، وبالتحديد (في الحمام) حيث تستقر صور الزعيم المخلوع ببساطة ودون دراما كبيرة، مجرد صورة مكسورة منسية بانتظار إصلاح لن يحدث أبدا، انعكاس بارد وباهت، لحدث بارد وباهت تم تحميله فوق ما يستحق تاريخيا وفعليا، نهاية غير متفائلة، لكنها ليست محبطة ولا مهزومة، فلا هزيمة ولا إحباط بالمقهي، فهاهنا لا شيء سوي دوران عجلة الحياة التي لا تعبأ بشيء ولا تهدف لشيء سوي أن تدور وتستمر. في حكاية من حكايات ألف ليلة وليلة تترك بنات الجن البطل في القصر ذي المائة باب، مانحات إياه كل المفاتيح، مع تحذير انه مسموح له بفتح 99 بابا فقط، ومحرم عليه الباب المائة، (باب الليل) هي هذا القصر المسحور، لكن بلا أبواب محرمة، اللهم إلا أبواب القاريء الذي عليه أن يتعلم فتحها وهو يمر عبر أبواب وحيد الطويلة.