لحظة أن قرأت عنوان ديوان الشاعرة دعاء زيادة (تزهر قليلًا وبرفق)، الصادر حديثًا عن الهيئة العامة للكتاب، ضمن سلسلة ديوان الشعر العربي، ظننت لوهلة أولي، أنني أمام ديوان يتسع لسعادات شتي، يُشع أملًا وحبورًا، يفيض إزهارًا ولذة، متبنيًا في هذا وجهة نظر مَن يرون أن العنوان ما هو إلا عتبة للنص، توحي ولو من بعيد بما في داخل دهاليز النص. غير أن النص، في هذه المرة، خذل وجهة النظر تلك، إذ جاء مغايرًا للعنوان، إن لم يكن عكْسه تمامًا، حين بدا نصًّا شديد الإيلام، تكابد فيه الذات الشاعرة جراح غيابات شتي، لم تصل بعْدُ لأن تبرأ منها، ومن آثارها الجانبية، وقبلها الداخلية، التي ما تزال ملازمة لها. (1) إنها تكتب نصها بصدق، وكما يحلو لها، مُعبرة عما يحدث في أعماقها من مشاعر وأحاسيس، من دون أن تخشي رقيبًا داخليا أو خارجيا.تكتب زيادة عن القُبلة المشتهاة، عن لمسات أصابع الحبيب لنهدين متعطشين للمسة في الغياب، وعن شئون الجسد الأخري.إلي جانب هذا تتعاطي مع نصها مثلما تتعاطي مع ذاتها، لا فرق ولا فارق بينهما، حتي إنها، هي ونَصها، يبدوان متماثلين تمام التماثل، درجة أننا إذا ما أردنا أن نعثر علي عوالمها وتضاريسها، فما علينا إلا أن نقرأ نصوصها التي يضمها تزهر برفق. (2) يظهر الجسد في المقدمة، معلنا احتفاء صاحبته به: (من حمالة صدري يرجف زغب الحنين، يلوذ بجلدي كي يبوح نهداي بالخفايا، وتجيب يداك طراوة السؤال. ............. إنها الثالثة عطرًا، توقيت الحرائق والعناق والقبل العنيفة والتنهدات). ومن حقل مفردات الجسد الأخري التي تتكرر في معظم القصائد: ظهورنا، الشفاه، الرقص الحميم، حمالة صدري، جلدي، نهداي، عنقي، جفوني، جبيني، لحمي، أنثي، شَعري، وغيرها.كذلك نجد حوارًا، يمتد بامتداد قصائد الديوان، ما بين الشاعرة وذاتها من ناحية، وما بينها وبين الآخر / الحبيب / المُنتَظَر، والذي يلفه غيابه عنها أو يلفها غيابها عنه وتنتظر قدومه من بعيد من ناحية أخري. (3) كذلك نري أن الغياب / الغربة يتربعان علي طليعة المشهد في معظم قصائد هذا الديوان، غير أن الغياب هنا يَحْضر بمعناه الشامل، الذي يعني غيابات عديدة لا غيابًا وحيدًا.يغيب الحبيب في الزحام، الحبيب الذي تحاول أن تداوي غيابه بالموسيقي، يغيب الفرح الذي تتعثر بغباره ولا تمسك به، تغيب المتعة والإحساس بملذات الحياة.حتي إنه يمكن اعتبار نصوص تزهر قليلًا وبرفق نصًّا واحدًا تبوح فيه الذات الشاعرة بما يكدر صفو حياتها، من عيش في الغربة، إلي غياب الحبيب، إلي غياب أشياء كثيرة تفتقر الذات الشاعرة إلي وجودها في عالمها الخاص، إلي غياب دواء ناجع يخلّصها من أوجاعها، إلي أقسي أنواع الغياب: غياب الحرية.بل وصل بها الحال لأن تسمي هذا الغياب بالغياب الفسيح، موحية بما له من آثار عليها وعلي طقوس حياتها. هذا ويبدو نص دعاء زيادة مثقلًا بالأوجاع والآلام التي سببها الحنين إلي لحظة مبتغاة، بعد أن تعلن الذات الشاعرة ظمأها لقُبلة من حبيب تنتظر لمسة من يديه تهديء لهفة جسدها الذي يحترق لوعة في غياهب الانتظار.كل هذا الحب وما زال قلبها يشتهي أن يطهو المحبة لمحبوبها علي نار هادئة. (4) أما الغربة المكتملة فتعيش تفاصيلها الذات الشاعرة في ترحالها وتنقلها من مكان إلي آخر، ومن بلد إلي غيره، حاملة أوراقًا ثبوتية لا تشبهها، يشدها البعاد من أخمص الروح بعد أن تلْفظها الحدود وتتلقّفها الغربة من مدينة إلي أخري فيما لا يناديها الوطن (قصيدتها ما يقوله المساء للغريبة).بل يزداد مؤشر التأثر بالغربة في الارتفاع حتي يصل الأمر إلي أنها لا تقطن في الغربة، بل الغربة هي التي تقطنها بكل جدارة: ( أقلم أظافري، وأدير القناة من الأخبار الحامضة إلي حفل مسجل لأم كلثوم علي قناة أخري، هذا ما يفعله الغريب في منتصف الوحدة تمامًا بعد أن أدمت قلبه صور الشهداء في بلاده ولعن كل مقدمي التوك شو الذين اتخذوا من المأساة مزادًا آخر للمتاجرة بالوطن ). (5) كذلك تقترب الذات الشاعرة، في سعيها نحو الابتعاد عن عذابات الغياب والوحدة، من اليومي المعيش، علّها تجد لديه ما يعزيها، أو يخفف عنها، ولو قليلًا، مما هي فيه، مستخدمة مفردات من قبيل: علبة سجائر، منفضة، كتاب، هاتف، جهاز ركض منزلي، الطاولة، نبيذ، ورد، انفجارات بعيدة، أزمة انتخاب.ربما تحاول الشاعرة هنا أن تُغْرق ذاتها في هذه التفاصيل كي يساعدها هذا في نسيان ما يُلم بها من غربة متوحشة تنهش جسدها وروحها من دون شفقة.غير أن ما قد يفعل بها هذا لن يكون سوي حضور الحبيب الغائب. وبعد، هذه نصوص لم تزهر سوي ألم، غياب، غربة، ووحدة، كتبتها دعاء زيادة لتعزي نفسها من جهة، ولتنضم، من جهة أخري، إلي قبيلة الشعراء الذين عانوا كثيرًا من الغربة سواء خارج أوطانهم أو داخلها، وهذه هي الغربة الأقسي.